الشاعر سليمان العيسى
بقلم - دفالح الكيلاني
ولد الشاعرسليمان بن احمد العيسى في قرية (النعيرية) من اعمال لواء الاسكندورونة السوري في سنة 1921 وتعلم في هذه القرية على يد أبيه أحمد العيسى فحفظ القرآن الكريم والمعلقات وديوان المتنبي وآلاف الأبيات من الشعر العربي. ولم يكن في القرية مدرسة غير (مدرسة الكُتَّاب) الذي كان بيت الشاعر الصغير والذي كان ابوه الشيخ أحمد يسكنه، ويعلّم فيه الاطفال .
ثم انتقل الى مدينة ( أنطاكية ) لاكمال دراسته وقد وترك
( الاسكندرونة) بعد ان بعد سلخه الاستعمارعن سوريا في سنة 1939 واضافه الى تركيا ، ثم درس الثانوية في ( حماة )و( اللاذقية ) ثم انتقل الى مدرسة (التجهيز الأولى) في ( دمشق ) حيث شارك في تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1947. ثم انتقل الى بغداد لاكمال دراسته و تخرج من دار المعلمين في بغداد وعاد الى سوريا معلما للغة العربية في مدارس ( حلب ) وعمل موجهاً للغة العربية في وزارة التربية السورية.
بدأ سليمان العيسى بكتابة الشعر وهو في التاسعة من عمره، في وصف معاناة أهله من الفلاحين في الشام وندد بالاستعمار الفرنسي كثيرا وقد سجنته سلطات الاحتلال الفرنسية في شبابه بسبب مواقفه المعادية للانتداب،ولأنه كان يناضل بالكلمة من أجل تحقيق الوحدة العربية، وكان من أهم الشعراء العرب القوميين ومن أكبر شعراء الأطفال، ويعد احد مؤسسي اتحاد الكتاب العرب في سنة 1969 في سوريا.
كانت حياة الشاعر سليمان العيسى، متعبة فقدٍ طالته و منذ نعومة أظفاره. بدءا من مسقط رأسه في غرب(أنطاكيا ) ضمن لواء الاسكندرونة الذي أصبح جزءا من الأراضي التركية فيما بعد. ومرورا بالأحلام السياسية التي جعلته طريد السلطات المحلية والعربية. والتي انتهت بغربته حيث آثر أن يقضي في اليمن خمسة عشرا عاما.
وكذلك أثرت عليه ( النكسة ) في فلسطين وانشاء فيها دولة لليهود كما أثرت على أبناء جيله، فآثر ان ينصرف إلى كتابة شعر الأطفال بشكل كبير، وعرفه السوريون في شكل خاص، في شعر الأطفال. وعند هذه النقطة بالتحديد ،اصبح سليمان ضحية للاستخدام الآيديولوجي المفرط من قبل حزب البعث في سوريا ،الذي شارك في تاسيسه حيث تم طبع قصائده في الكتب المدرسية على نطاق واسع، ولشدة ولع النظام البعثي به، وقتذاك،بهذه الامور كان يتم التشديد على تلامذة المدارس لحفظ قصائده إلى درجة حفظ اسمم الشاعر مع النص حتى نفر الأطفال من شعره بعدما كبروا، ولم تتسنّ لهم الفرصة الأخلاقية الكافية لقراءة تجربته الشعرية بمعزل عن الاستخدام الآيديولوجي المفرط لها، فقد كان جزءا من سياسة الدولة، وطرفا أساسيا في معاركها الآيديولوجية المفتوحة على كل الجهات. فادت هذه الحالة الى توقف تجربة قراءة العيسى عند مراحل التعليم الأساسي، مما ألحق ضررا جسيما بتجربة شاعر أضرّه التوحد مع الدولة أكثر مما أفاده. بحيث وقعت تجربة سليمان العيسى ضحية ثقافة الحداثة الشعرية العربية،وكان يقول :
(أدبنا العربي، والكلام للشاعر العيسى، محروم من شعر الأطفال، وشعراؤنا ما زالوا يخجلون من وضع بسمة الملائكة على شفتي طفل، أعني من كتابة نشيد للصغار يخجلون أو يترفعون أو يتهيبون….. لا أدري… تظل النتيجة واحدة ويظل أطفالنا محرومين من بسمات الملائكة على شفاههم، أعني من الأناشيد الجميلة، من الشعر الحقيقي، ويظل أدبنا العربي ذو التاريخ العظيم محروماً من أحلى ينابيعه، أعني الأطفال،ورحم الله شوقي الذي أحس هذا فلبّي وفتح لنا الطريق، أياً كان الطريق. الأطفال هم فرح الحياة ومجدها الحقيقي لأنهم المستقبل، لأنهم الشباب الذي سيملأ الساحة غداً، لأنهم امتدادي وامتدادك، في هذه الأرض، لأنهم النبات الذي تبحث عنه أرضنا العربية لتعود إليها دورتها الدموية التي تعطلت ألف عام وعروقها التي جفت ألف عام )
ومن احدى قصائده للاطفال :
في قصيدته رفيقي الأرنب:
قفز الأرنب خاف الأرنب
كنت قريباً منه ألعب
أبيض أبيض مثل النور
يعدو في البستان يدور
يبحث عن ورقات خضر
يخطفها كالبرق ويجري
يا موجاً من فرو ناعم
فوق العشب الأخضر عائم
لا تهرب مني يا أرنب
أنت رفيقي هيا نلعب
وفي بعضها يشد الاطفال للواقع العربي المعاش ويغرس في اذهان الاطفال الاحداث الجارية والوطنية يقول :
فلسطين داري
ودرب انتصاري
تظل بلادي
هوى في فؤادي
ولحناً أبياً
على شفتيا
وجوه غريبة
بأرضي السليبة
تبيع ثماري
وتحتل داري
وأعرف دربي
ويرجع شعبي
إلى بيت جدي
إلى دفء مهدي
فلسطين داري
ودرب انتصاري
ومن مسرحياته الشعرية للاطفال هذه المقاطع :
سَمّوْنَا: حُورَ الماء
كنا حلم الشعراء
غنوا.. سبحوا بجدائلنا
سرقوا كلماتِ رسائلنا
ونروحُ هنا ونجيءْ
نغماً في الشطّ يُضيءْ
والأفقُ لنَزْوتِنا زَوْرَقْ
الشاعر: يا إلاهاتِ الهوى.. هذا ربابي!
وبقايا من لهيبٍ وترابِ
قطرةً من رَوْعةٍ في وَتَري
يا إلاهاتُ.. ونَضَّرْنَ يبابي!
.......
الحوريات: سَمّونا حور الماءْ
وندامانا الشعراءْ
مَرَّ "الملكُ الضِلّيلُ"* بنا
وجميل بثينة.. كان هنا
ومجانينُ الفَلَواتْ*
وقوافلُ من زَفَراتْ
ما زالت في نَهْدٍ تشْهَقْ
............
أبدَعناكُمْ وتراً وترا
أعطينا الأجفانَ السّهرا
لم نبخلْ بالجسدِ البضِّ
من قُبلتِنا عطر الأرضِ
قطّرنَا اللذة في الحبِّ
وأعرْنا النّبضةَ للقلْبِ
وبقيتُمْ شوقاً يتحرّقْ
...............
الشاعر: قُدِّسَ السرُّ الذي تَحْمِلْنَهُ!
قُدِّسَتْ فتنتُهُ أمُّ العذابِ!
يا إلاهاتِ الهوى.. هذي يدي
لهفةٌ ضارعةٌ، هذا سَرَابي!
............
حورية أولى: لا تلمسْ بالفاني جسدي
خُذني همساً خلف الأبدِ
تعطَى شفتي وتُباحْ
من يملِكُ ظِلَّ جَناحْ
تَتَلوَّى كالأَفعى الرّغبَةْ
فافتح لي جنّتكَ الرحبَهْ
وتعالَ بأغنيةٍ نَغْرَقْ
.حورية ثانية: أترنّحُ مثلَ شِراعْ
أتعرّى مِثْلَ شُعاعْ
لا أُومِنُ بالحُلُمِ الأخضرْ
الأرضُ لنا.. هيا نَسْكَرْ
الأرضُ تمدُّ ذِراعيها
أشواقي منها وإليها
في صدري لَيْلُكَ.. لا تأرَقْ
............
الشاعر: يابْنَةَ الماءِ.. تعرّيْ فِتنةً
اوفرِ في هاجساً خلفَ الضبابِ
أنتِ ينبوعي.. وطاغٍ عطشي
وأنا وحدي أختارُ شرابي
...............
حورية ثالثة: في فجرِ الحبّ.. غريراتُ
تتفجّرُ، تغلي الصّبَواتُ
الشطُّ الصامتُ وشوشني:
ما جدوى النسمةِ تلمِسُني..
وتطيرُ بلا أصداء
يملأُنَ حياة الماء
يسقينَ من الظّمأِ الأعمقْ؟
...............
الحوريات: أين (الملكُ الضلّيلْ)؟
جُوعٌ في الرملِ قتيلْ
أين الآتونَ على الدربِ؟
للنشوةِ نحنُ، وللحُبِ
لا تنطفئُ الزّفراتْ
وضفائرُنا عطِراتْ
المواةُ تهتِفُ.. فَلْنَغرقْ!
**************
لكنه على العموم خسر كثيرا فتم التعامل معه اعتباطيا بصفته شاعرا مدرسيا عاديا، بينما نشأت أجيال أدبية كاملة دون حتى أن تعطي لنفسها فرصة التعامل الفني مع تجربته، وتم الحكم على ما انتج من شعر بـالإعدام الفني، فأُهمِل من قِبل كل الأجيال الأدبية الجديدة وتم التعامل معه بلا مبالاة وضاع مستواه الادبي والشعري حتى وصل إلى حد الظن بأن العيسى قد فارق الحياة أكثر من مرة.
لذا يبدو سليمان العيسى وكأنه كتلة من الخسارات، منها ضياع مسقط رأسه الذي أصبح في دولة أخرى، بعد إلحاق لواء الاسكندرون بالأراضي التركية. ومنها أحلامه القومية التي جعلته يتنقل ما بين حلب ودمشق وبغداد وصنعاء، وسواها من المدن. حتى كادت لتضيّق الأرض من تحت قدميه حيث اصبح لا يجد مكانا في الآونة الأخيرة يركن إليه بعد عودته إلى دمشق، فقد شهدت (ضاحية دمّر) التي سكنها في الفترة الأخيرة، عنفا عسكريا مثلها كباقي المدن السورية.وخير دليل على ما نقول قصيدته في وصف سجن (المزة ) سيء الصيت اذ يقول:
هذي هي (المزة) السوداء واجمة الركابِ
هذي سلاسل أمتي نثرت على تلك الشعابِ
هذا هو السجن الملفّع بالحديد وبالحرابِ
في هذه الظلمات يرقد من تركت من الصحابِ
في هذه الظلمات كم جسد تقطّع كم إهابِ!
قضى سليمان العيسى أعوامه الأخيرة من حياته في اليمن حيث بقي فيها خمسة شرة سنة بصحبة زوجته الأكاديمية وأستاذة الأدب ملكة أبيض، وهي رفيقة حياته وكانت إلى جانبه في كل مراحل عمره. اهتم سليمان العيسى باليمن، وخصها بكثير من أشعاره التي صدرت في كتاب اسماه (اليمن في شعري) الذي يضم نصوصاً شعرية مختارة ومميزة اختارتها زوجة الشاعر ملكة أبيض وقامت بنقلها إلى الفرنسية وطبعت في هذا الإصدار باللغتين العربية والفرنسية. وقد عرفه اليمنيون بقصائد الأطفال كما عرفه السوريون. ثم عاد إلى دمشق وسكنها في فترة الأخيرة من حياته .
توفي الشاعر سليمان العيسى، الجمعةالتاسع من اب (اغسطس) 2013 عن عمر ناهز الـ 92 عاما في العاصمة دمشق بعد عانى من مرض عضال لكنه حافظ على وعيه حتى آخر دقائق حياته وبقي مهتماً بما يحدث حوله، ولو أنه عانى من صعوبة في النطق.ودفن جثمانه في مقبرة الشيخ ارسلان بدمشق.
وصدر له عشرات الكتب والمسرحيات الشعرية ومن كتبه مايلي:
شاعر بين الجدران
قصائد عربية
أمواج بلا شاطئ
رسائل مؤرقة
أزهار الضياع
دفتر النثر
اليمن في شعري
أعاصير في السلاسل
رمال عطشى - حيث ضمّنه نقدا وسخطا على ما آلت إليه أمته، حيث صار اسمه متلازما مع حزب البعث، ليصبح شاعر البعث بلا منازع فاثرهذا على حالته الادبية والشعرية .
سليمان العيسى شاعر عربي كبير عاصر الحداثة العربية وكان رائدا فيها الا انه لم يكن بمستوى الطموح الذي وصل اليه اقرانه الشعراء مثل عمر ابو ريشة او محمود درويش او قباني لاسباب بينتها اعلاه .
واختم بحثي بهذه الابيات من شعره:
أنا لا أعرفهم .. لكنه
نبأ يَرْعش منهم في عروقي
اقفِلِ المذياع .. قبرٌ باردٌ
راح يروي لي انفجاراتِ الشروق
اقفل المذياع .. أنباؤهمُ
بدمي تسري ، بنبضي ، بشهيقي
أنا لا أعرفهم .. لكنهم
قبَسي في كل خطوٍ وطريقي
ليس فيهم – والصحارى بيننا
- غير هدّارٍ بصوتي ، ورفيقِ
الربيع الحلو في مَعقلهِم
يتحدى كلّ نارٍ وحريقِ
صخرة عطشى ، وفهدٌ ثائر
قصة البركان ، والشعب الطليق
حملةٌ رُدَّتْ ، ووحشٌ مزقوا
نابه ، فالصخر ريّان السّموقِ
امطري ما شئا ناراً فوقنا
واسفحي عطراً دمانا وأريقي !
يا قوي البغي .. صخوري ، جبلي
بسمةٌ تهزأ "باللص" الغريقِ !
أخضرٌ موطئ أقدامهم
أخضرٌ ، يضحك للنصر الوريقِ
أقفل المذياع .. إني معهم في
الذرى ، في كل هضبٍ مستفيق
بالوضيئين : الضحى في رأدِهِ
وانتصار الحق والشعب وثوقي
مُزِّق الإخوة حيناً ، والتقى
في لظى الثأر شقيقٌ بشقيقِ
أيها الأخضر .. يا معقلهم
أيها الشامخ كالنسر العتيق
ليس ثوّارك .. إلا أمتي
زحفَتْ من كل أخدودٍ عميق
في عمانٍ جذوةٌ من فجرها
وعلى المغرب تزأر بروقِ
أنا لا أعرفهم .. لكنهم
في دمي أحرار شعبي ، في عروقي
كلما جلجل عنهم نبَأ
سكر النصر بعُلْويِّ الرحيق
لن تطيقي يا قوى البغي سوى
أن تزولي من ثرانا .. لن تطيقي !
اميرالبين العربي
د فالح نصيف الكيلاني
العراق- ديالى - بلدروز
***********************
بقلم - دفالح الكيلاني
ولد الشاعرسليمان بن احمد العيسى في قرية (النعيرية) من اعمال لواء الاسكندورونة السوري في سنة 1921 وتعلم في هذه القرية على يد أبيه أحمد العيسى فحفظ القرآن الكريم والمعلقات وديوان المتنبي وآلاف الأبيات من الشعر العربي. ولم يكن في القرية مدرسة غير (مدرسة الكُتَّاب) الذي كان بيت الشاعر الصغير والذي كان ابوه الشيخ أحمد يسكنه، ويعلّم فيه الاطفال .
ثم انتقل الى مدينة ( أنطاكية ) لاكمال دراسته وقد وترك
( الاسكندرونة) بعد ان بعد سلخه الاستعمارعن سوريا في سنة 1939 واضافه الى تركيا ، ثم درس الثانوية في ( حماة )و( اللاذقية ) ثم انتقل الى مدرسة (التجهيز الأولى) في ( دمشق ) حيث شارك في تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1947. ثم انتقل الى بغداد لاكمال دراسته و تخرج من دار المعلمين في بغداد وعاد الى سوريا معلما للغة العربية في مدارس ( حلب ) وعمل موجهاً للغة العربية في وزارة التربية السورية.
بدأ سليمان العيسى بكتابة الشعر وهو في التاسعة من عمره، في وصف معاناة أهله من الفلاحين في الشام وندد بالاستعمار الفرنسي كثيرا وقد سجنته سلطات الاحتلال الفرنسية في شبابه بسبب مواقفه المعادية للانتداب،ولأنه كان يناضل بالكلمة من أجل تحقيق الوحدة العربية، وكان من أهم الشعراء العرب القوميين ومن أكبر شعراء الأطفال، ويعد احد مؤسسي اتحاد الكتاب العرب في سنة 1969 في سوريا.
كانت حياة الشاعر سليمان العيسى، متعبة فقدٍ طالته و منذ نعومة أظفاره. بدءا من مسقط رأسه في غرب(أنطاكيا ) ضمن لواء الاسكندرونة الذي أصبح جزءا من الأراضي التركية فيما بعد. ومرورا بالأحلام السياسية التي جعلته طريد السلطات المحلية والعربية. والتي انتهت بغربته حيث آثر أن يقضي في اليمن خمسة عشرا عاما.
وكذلك أثرت عليه ( النكسة ) في فلسطين وانشاء فيها دولة لليهود كما أثرت على أبناء جيله، فآثر ان ينصرف إلى كتابة شعر الأطفال بشكل كبير، وعرفه السوريون في شكل خاص، في شعر الأطفال. وعند هذه النقطة بالتحديد ،اصبح سليمان ضحية للاستخدام الآيديولوجي المفرط من قبل حزب البعث في سوريا ،الذي شارك في تاسيسه حيث تم طبع قصائده في الكتب المدرسية على نطاق واسع، ولشدة ولع النظام البعثي به، وقتذاك،بهذه الامور كان يتم التشديد على تلامذة المدارس لحفظ قصائده إلى درجة حفظ اسمم الشاعر مع النص حتى نفر الأطفال من شعره بعدما كبروا، ولم تتسنّ لهم الفرصة الأخلاقية الكافية لقراءة تجربته الشعرية بمعزل عن الاستخدام الآيديولوجي المفرط لها، فقد كان جزءا من سياسة الدولة، وطرفا أساسيا في معاركها الآيديولوجية المفتوحة على كل الجهات. فادت هذه الحالة الى توقف تجربة قراءة العيسى عند مراحل التعليم الأساسي، مما ألحق ضررا جسيما بتجربة شاعر أضرّه التوحد مع الدولة أكثر مما أفاده. بحيث وقعت تجربة سليمان العيسى ضحية ثقافة الحداثة الشعرية العربية،وكان يقول :
(أدبنا العربي، والكلام للشاعر العيسى، محروم من شعر الأطفال، وشعراؤنا ما زالوا يخجلون من وضع بسمة الملائكة على شفتي طفل، أعني من كتابة نشيد للصغار يخجلون أو يترفعون أو يتهيبون….. لا أدري… تظل النتيجة واحدة ويظل أطفالنا محرومين من بسمات الملائكة على شفاههم، أعني من الأناشيد الجميلة، من الشعر الحقيقي، ويظل أدبنا العربي ذو التاريخ العظيم محروماً من أحلى ينابيعه، أعني الأطفال،ورحم الله شوقي الذي أحس هذا فلبّي وفتح لنا الطريق، أياً كان الطريق. الأطفال هم فرح الحياة ومجدها الحقيقي لأنهم المستقبل، لأنهم الشباب الذي سيملأ الساحة غداً، لأنهم امتدادي وامتدادك، في هذه الأرض، لأنهم النبات الذي تبحث عنه أرضنا العربية لتعود إليها دورتها الدموية التي تعطلت ألف عام وعروقها التي جفت ألف عام )
ومن احدى قصائده للاطفال :
في قصيدته رفيقي الأرنب:
قفز الأرنب خاف الأرنب
كنت قريباً منه ألعب
أبيض أبيض مثل النور
يعدو في البستان يدور
يبحث عن ورقات خضر
يخطفها كالبرق ويجري
يا موجاً من فرو ناعم
فوق العشب الأخضر عائم
لا تهرب مني يا أرنب
أنت رفيقي هيا نلعب
وفي بعضها يشد الاطفال للواقع العربي المعاش ويغرس في اذهان الاطفال الاحداث الجارية والوطنية يقول :
فلسطين داري
ودرب انتصاري
تظل بلادي
هوى في فؤادي
ولحناً أبياً
على شفتيا
وجوه غريبة
بأرضي السليبة
تبيع ثماري
وتحتل داري
وأعرف دربي
ويرجع شعبي
إلى بيت جدي
إلى دفء مهدي
فلسطين داري
ودرب انتصاري
ومن مسرحياته الشعرية للاطفال هذه المقاطع :
سَمّوْنَا: حُورَ الماء
كنا حلم الشعراء
غنوا.. سبحوا بجدائلنا
سرقوا كلماتِ رسائلنا
ونروحُ هنا ونجيءْ
نغماً في الشطّ يُضيءْ
والأفقُ لنَزْوتِنا زَوْرَقْ
الشاعر: يا إلاهاتِ الهوى.. هذا ربابي!
وبقايا من لهيبٍ وترابِ
قطرةً من رَوْعةٍ في وَتَري
يا إلاهاتُ.. ونَضَّرْنَ يبابي!
.......
الحوريات: سَمّونا حور الماءْ
وندامانا الشعراءْ
مَرَّ "الملكُ الضِلّيلُ"* بنا
وجميل بثينة.. كان هنا
ومجانينُ الفَلَواتْ*
وقوافلُ من زَفَراتْ
ما زالت في نَهْدٍ تشْهَقْ
............
أبدَعناكُمْ وتراً وترا
أعطينا الأجفانَ السّهرا
لم نبخلْ بالجسدِ البضِّ
من قُبلتِنا عطر الأرضِ
قطّرنَا اللذة في الحبِّ
وأعرْنا النّبضةَ للقلْبِ
وبقيتُمْ شوقاً يتحرّقْ
...............
الشاعر: قُدِّسَ السرُّ الذي تَحْمِلْنَهُ!
قُدِّسَتْ فتنتُهُ أمُّ العذابِ!
يا إلاهاتِ الهوى.. هذي يدي
لهفةٌ ضارعةٌ، هذا سَرَابي!
............
حورية أولى: لا تلمسْ بالفاني جسدي
خُذني همساً خلف الأبدِ
تعطَى شفتي وتُباحْ
من يملِكُ ظِلَّ جَناحْ
تَتَلوَّى كالأَفعى الرّغبَةْ
فافتح لي جنّتكَ الرحبَهْ
وتعالَ بأغنيةٍ نَغْرَقْ
.حورية ثانية: أترنّحُ مثلَ شِراعْ
أتعرّى مِثْلَ شُعاعْ
لا أُومِنُ بالحُلُمِ الأخضرْ
الأرضُ لنا.. هيا نَسْكَرْ
الأرضُ تمدُّ ذِراعيها
أشواقي منها وإليها
في صدري لَيْلُكَ.. لا تأرَقْ
............
الشاعر: يابْنَةَ الماءِ.. تعرّيْ فِتنةً
اوفرِ في هاجساً خلفَ الضبابِ
أنتِ ينبوعي.. وطاغٍ عطشي
وأنا وحدي أختارُ شرابي
...............
حورية ثالثة: في فجرِ الحبّ.. غريراتُ
تتفجّرُ، تغلي الصّبَواتُ
الشطُّ الصامتُ وشوشني:
ما جدوى النسمةِ تلمِسُني..
وتطيرُ بلا أصداء
يملأُنَ حياة الماء
يسقينَ من الظّمأِ الأعمقْ؟
...............
الحوريات: أين (الملكُ الضلّيلْ)؟
جُوعٌ في الرملِ قتيلْ
أين الآتونَ على الدربِ؟
للنشوةِ نحنُ، وللحُبِ
لا تنطفئُ الزّفراتْ
وضفائرُنا عطِراتْ
المواةُ تهتِفُ.. فَلْنَغرقْ!
**************
لكنه على العموم خسر كثيرا فتم التعامل معه اعتباطيا بصفته شاعرا مدرسيا عاديا، بينما نشأت أجيال أدبية كاملة دون حتى أن تعطي لنفسها فرصة التعامل الفني مع تجربته، وتم الحكم على ما انتج من شعر بـالإعدام الفني، فأُهمِل من قِبل كل الأجيال الأدبية الجديدة وتم التعامل معه بلا مبالاة وضاع مستواه الادبي والشعري حتى وصل إلى حد الظن بأن العيسى قد فارق الحياة أكثر من مرة.
لذا يبدو سليمان العيسى وكأنه كتلة من الخسارات، منها ضياع مسقط رأسه الذي أصبح في دولة أخرى، بعد إلحاق لواء الاسكندرون بالأراضي التركية. ومنها أحلامه القومية التي جعلته يتنقل ما بين حلب ودمشق وبغداد وصنعاء، وسواها من المدن. حتى كادت لتضيّق الأرض من تحت قدميه حيث اصبح لا يجد مكانا في الآونة الأخيرة يركن إليه بعد عودته إلى دمشق، فقد شهدت (ضاحية دمّر) التي سكنها في الفترة الأخيرة، عنفا عسكريا مثلها كباقي المدن السورية.وخير دليل على ما نقول قصيدته في وصف سجن (المزة ) سيء الصيت اذ يقول:
هذي هي (المزة) السوداء واجمة الركابِ
هذي سلاسل أمتي نثرت على تلك الشعابِ
هذا هو السجن الملفّع بالحديد وبالحرابِ
في هذه الظلمات يرقد من تركت من الصحابِ
في هذه الظلمات كم جسد تقطّع كم إهابِ!
قضى سليمان العيسى أعوامه الأخيرة من حياته في اليمن حيث بقي فيها خمسة شرة سنة بصحبة زوجته الأكاديمية وأستاذة الأدب ملكة أبيض، وهي رفيقة حياته وكانت إلى جانبه في كل مراحل عمره. اهتم سليمان العيسى باليمن، وخصها بكثير من أشعاره التي صدرت في كتاب اسماه (اليمن في شعري) الذي يضم نصوصاً شعرية مختارة ومميزة اختارتها زوجة الشاعر ملكة أبيض وقامت بنقلها إلى الفرنسية وطبعت في هذا الإصدار باللغتين العربية والفرنسية. وقد عرفه اليمنيون بقصائد الأطفال كما عرفه السوريون. ثم عاد إلى دمشق وسكنها في فترة الأخيرة من حياته .
توفي الشاعر سليمان العيسى، الجمعةالتاسع من اب (اغسطس) 2013 عن عمر ناهز الـ 92 عاما في العاصمة دمشق بعد عانى من مرض عضال لكنه حافظ على وعيه حتى آخر دقائق حياته وبقي مهتماً بما يحدث حوله، ولو أنه عانى من صعوبة في النطق.ودفن جثمانه في مقبرة الشيخ ارسلان بدمشق.
وصدر له عشرات الكتب والمسرحيات الشعرية ومن كتبه مايلي:
شاعر بين الجدران
قصائد عربية
أمواج بلا شاطئ
رسائل مؤرقة
أزهار الضياع
دفتر النثر
اليمن في شعري
أعاصير في السلاسل
رمال عطشى - حيث ضمّنه نقدا وسخطا على ما آلت إليه أمته، حيث صار اسمه متلازما مع حزب البعث، ليصبح شاعر البعث بلا منازع فاثرهذا على حالته الادبية والشعرية .
سليمان العيسى شاعر عربي كبير عاصر الحداثة العربية وكان رائدا فيها الا انه لم يكن بمستوى الطموح الذي وصل اليه اقرانه الشعراء مثل عمر ابو ريشة او محمود درويش او قباني لاسباب بينتها اعلاه .
واختم بحثي بهذه الابيات من شعره:
أنا لا أعرفهم .. لكنه
نبأ يَرْعش منهم في عروقي
اقفِلِ المذياع .. قبرٌ باردٌ
راح يروي لي انفجاراتِ الشروق
اقفل المذياع .. أنباؤهمُ
بدمي تسري ، بنبضي ، بشهيقي
أنا لا أعرفهم .. لكنهم
قبَسي في كل خطوٍ وطريقي
ليس فيهم – والصحارى بيننا
- غير هدّارٍ بصوتي ، ورفيقِ
الربيع الحلو في مَعقلهِم
يتحدى كلّ نارٍ وحريقِ
صخرة عطشى ، وفهدٌ ثائر
قصة البركان ، والشعب الطليق
حملةٌ رُدَّتْ ، ووحشٌ مزقوا
نابه ، فالصخر ريّان السّموقِ
امطري ما شئا ناراً فوقنا
واسفحي عطراً دمانا وأريقي !
يا قوي البغي .. صخوري ، جبلي
بسمةٌ تهزأ "باللص" الغريقِ !
أخضرٌ موطئ أقدامهم
أخضرٌ ، يضحك للنصر الوريقِ
أقفل المذياع .. إني معهم في
الذرى ، في كل هضبٍ مستفيق
بالوضيئين : الضحى في رأدِهِ
وانتصار الحق والشعب وثوقي
مُزِّق الإخوة حيناً ، والتقى
في لظى الثأر شقيقٌ بشقيقِ
أيها الأخضر .. يا معقلهم
أيها الشامخ كالنسر العتيق
ليس ثوّارك .. إلا أمتي
زحفَتْ من كل أخدودٍ عميق
في عمانٍ جذوةٌ من فجرها
وعلى المغرب تزأر بروقِ
أنا لا أعرفهم .. لكنهم
في دمي أحرار شعبي ، في عروقي
كلما جلجل عنهم نبَأ
سكر النصر بعُلْويِّ الرحيق
لن تطيقي يا قوى البغي سوى
أن تزولي من ثرانا .. لن تطيقي !
اميرالبين العربي
د فالح نصيف الكيلاني
العراق- ديالى - بلدروز
***********************