ملامح التّجديد في القصيدة العربية
وقراءة الشعر المعاصر
كان النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر إيذانا بظهور تيّارات فكرية ومذاهب أدبية، تعدّدت مشاربها وتنوّعت مراجعها الفكرية فتباينت بذلك أشكالها التّعبيرية وآلياتها الفنّية وفق أسس شعرية، رأى فيها أصحابها القدرة على حمل تجارب العصر الجديدة الّتي لا تقوى الأشكال التّقليدية على حمله بحد تفهمهم ممّا أدّى ببعض الشّعراء إلى الإعلان عن ضرورة استحداث أشكال شعرية جديدة.
ومن هنا أصبح من الضّروري على الشّاعر المعاصرممن تبع هذا التيار أن يجدد في طرق تعبيره وأدواته الفنّية، تماشيا مع مستجدّات العصر، فكان التّمرد والتّحرّر من القيود والأشكال القديمة اهم وأولى مداخل هذا العهد الجديد وقبل أن نبين مظاهر التّجديد في القصيدة العربية
الانفتاح الثقافي في ادب المعاصرة في الوطن العربي انفتح واسعا بعد اوائل القرن العشرين ومن مظاهر هذا الانفتاح ظهور حالة التّحول فهي بتيار بدأ أصوليّا ثمّ انتفض من الداخل ليكون تيارا قويا من التّجديد ومن هذا التيار يتبين لنا أن لكل زمن خصوصياته وخاصة في الثقافة والادب والشعر . يبدا بايجاد تغييرا جديد في الحياة العامة وجدتها فنتج عن ذلك مجال لايجاد تغيير في الاصول الثقافية والادبية وخاصة في مجال الشعر فاحدث تغييرا في بنيته وهيكلته ومساره واعتبر هذا التغيير تغييرا جذريا . اعتبر تحوّلا حقيقيا عن المسار المعروف والتّقاليد المتداولة والمرتبطة بشكل الفنّ وطرائق التّعبير، وأدوات هذا التّعبير سواء كانت هذه الأدوات في لغة الشعر وفي أساليبه التّعبيرية المختلفة و في هيكله البنائي وفي في مضمونه الفكري تبعا للتغيير الحاصل في الحياة ومستقبلها . ولا نستطيع ان ننكر ما احرز من تطور وتجديد قد بلغ درجة لم تحدث من قبل في تاريخ أدبنا العربي على اختلاف عصوره حيث تجاوزت الأشكال والمفاهيم في الشعر والادب .
وتبين لبعض شعراء الحداثة أنّ الأسلوب القديم بطريقته الملتزمة وشكله القديم لم يعد قادرا على استيعاب المفاهيم الشّعرية الجديدة كما بدى لهم فكانت ولادة الشعرالحراو ما يعرف بشعرالتفعيلة ومن هنا ظهرت محاولات جادة عرفت بالشّعر الحرّ. تعتبر امتدادا لنظم المقطوعات الشعرية او محاولة ايجاد الشعر المرسل لتصبح نقلة فنّية وحضارية عامة في الشّعر العربي، وقد حطّمت هذه المدرسة الشّعرية الجديدة كل القيود المفروضة عليها وانتقل الشعر من حالة الجمود إلى الحيوية والانطلاق كما يراه اصحاب هذه المدرسة او النظرية الشعرية الجديد ة في الادب العربي وتغيرت النظرة الى الشعر حيث اصبح شعر ذو شطر واحد ليس له طول ثابت وإنما اصبح أ و تغير عدد التفعيلات من سطر إلى سطر حيث تغير شطر البيت الشعري في القصيدة العربية الاصلية بالسطر الشعري ويكون هذا التغيير وفق قانون عروضي يتحكم فيه وقد وجد هذا القانون حيث حدد عدد تفعيلات السطرالشعري من تفعلية واحددة الى تسع تفعيلات في الاكثر .
ومن المفيد ان اذكر انه وجد ت تحولات في استخدام اللغة الشعرية سواء في اللغة ذاتها او في مجال الشعرالحر وكذلك تحولاتها الشعرية ووجد التجديد في الصورة الشعرية المستحدثة والتي اعتمدت في الاغلب على التجديد الاسطوري ومحاكاة الاسطورة والتوظيف الرمزي لها والاكثار من الرمز حتى حد الابهام والتشكيل الموسيقي من خلال التفعيلة المعتمدة في النظم الشعري ولو كثرت فيها الزحافات والامراض العروضية
اما في مجال اللغة ومحاكاتها فقد راى اصحاب الشعرالحر ان اللغة قد تحررت من هذه القيود أخذ الشّاعر يعبر عن قضاياه في صورة فنّية تتوافق وحالاته النّفسية والشّعورية وبدأ يتخلص من وحدة القافية الّتي كانت تقيّد في بعض الأحيان صوره ومشاعره وأفكاره وأطلق العنان للصّورة الشّعرية. حتى خرجت الصّورة الشعرية في الشّعر الحديث او الشعرالحر من مجرد علاقة جزئية بين مشبّه ومشبّه به، ومن مجرّد المهارة والبراعة في الدّقة إلى نوع من المشاهد أو اللّقطات الموحية المتتالية متسارعة تنقل لنا صورا متلاحقة مرئية ومسموعة .
اللّغة تعد أداة الشّاعروملكته فلا وجود للشعر دون لغة، واللّغة الوسيلة التي تؤدي المعنى وتخلق الفن الشعري يترجم الشاعر من خلالها انفعالاته وتجاربه والوسيلة التي يفلسف بها الإنسان ذاته الشعرية ولها القدرة على التواصل الانساني وكشف كوامن النفس الشاعرة وتعتبر الاساس الاول في الفن الشعري . والشاعر يدرك أهمية التّجديد اللّغوي ذلك المؤشر الجمالي على مستوى القصيدة العربية العمودية الكلاسيكية والحديثة المتطورة ولها المجال الواسع في اكتناز أسرار الخلق والإبداع من خلال ما يقوم به الشاعر من خلق الاشياء
وكما يشرح أدونيس، فإن "لغة الشّعر ليست لغة تعبير بقدر ما هي لغة خلق، فالشّعر ليس مسارا للعالم وليس الشّاعر الشّخص الّذي لديه شيء يعبر عنه وحسب، بل هو الشّخص الّذي يخلق أشياء تجعله يمزج الواقعية بالخيال في قصيدته .وفي نتاجه الشعري .
اما التشكيل الموسيقي او الوزن والقافية في القصيدة العمودية او قصيدة التفعيلة او السطر الشعري فهي من اكثر الظاهر الفنية والنفسية للشاعر المتمكن في نجموعة من الاحساسيس وصورة سمعية موسيقية متكاملة تتقارب فيها الأنغام المختلفة وفق ما يشكله الشاعر ويبدع في مجاله فهي نوع من الإيقاع الّذي يساعد الشاعر على تنسيق المشاعر والأحاسيس لديه .
إن روح الشّاعر الحر لا تطمئن إلى القيد ولا تسكن إليه، حرّة كالطّائر في السّماء، والموجة في البحر والنّشيد الهائم في آفاق الفضاء فقصيدته تكاد تكون حرّة فسيحة تمثل نفسيته الحرة . فموسيقى القصيدة العربية المعاصرة تقوم على اسس متمثلة بثوابت قائمة على أنّ القصيدة العربية ذات بنية إيقاعية خاصّة ترتبط بحالة الشّاعر الذاتية وتنطلق من نفسيته وما فيها قتمثل الشّاعر المعاصر حريته المطلقة في النظم والابداع .
ووجد في الشّعر العربي المعاصرالأسطورة التي تعتبر متنفسا للشاعر المعاصر يعبّر من خلالها عن قضاياه ومواقفه ومصدرا من مصادر إلالهام والشاعرية ومجالا واسعا لابداعه ، وطريقا يحتذبه كلّما غاص في بحر الشّعر والإبداع فيغرق ولعل افضل ما جاء في اعتماد الاسطورة ما جاء في شعر محمود درويش، وهو الذي قطع شوطًا كبيرًا في توظيف الأسطورة في الشعر حيث مزج الخيال بالابداع . يقول :
إنني أنهضُ من قاع الأساطير
وأصطاد على السطوح النائمة
خطوات الأهل والأحباب..
أصطاد نجومي القاتمة
إنني أمشي على مهلي, وقلبي مثل نصف البرتقالة
وأنا أعجب للقلب الذي يحمل حارة
وجبالاً, كيف لا يسأم حاله !
وأنا أمشي على مهلي .. وعيني تقرأ الأسماء
والغيمَ على كل الحجارة
وعلى جيدك يا ذات العيون السود
يا سيفي المذهَّبْ
ها أنا أنهض من قاع الأساطير .. وألعبْ
مثل دوريِّ على الأرض… وأشرب
من سحاب عالق في ذيل زيتون ونخلِ
ها أنا أشتمُّ أحبابي وأهلي .....
.
*******************