ملامح التجديد في الشعرالعباسي
ان من اسباب النمو وتطوره في العصر العباسي واختلافه بين شاعر واخر أن الشعر في هذا العصر قد اتيُح له أن يحيا حياة مستقلة من خلال التجديد الشعري و التطور الواسع الذي تساعده عليه الظروف المحيطة به , ولو ان بعض الشعراء لم تُتَح لهم الحرية في هذه الحياة التي يعيشونها وبقوا يدورون في فلك صاحب النفوذ ينشدون له ما يريد وحسب مشيئته ، فحُرموا الحرية التي يزدهر الشعر في ظلها، وجاء نتاجهم الأدبي صدى لما يريد هذا الحاكم او ذلك وما يصبو اليه وبتعبير اخر ان هؤلاء الشعراء كان تطورهم الشعري والثقافي محدودا فبقوا يدورون في فلك الحياة البدوية القاسية وتعبيرها الشديدة الوقع او القاسية هي ذاتها حياة الجزيرة العربية قبل الاسلام لكنهم قليل .
ان الشعر العربي في هذا العصر نتيجة لتطوره الواسع وافاقه المتسعة تأثر بكل التيارات والاحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية و تعكسه كل ما تراءى لها من امور , هذا بالاضافة الى تطور الثقافة الشعرية . أي بقي الشاعر تابعا لدولة الخلافة وسياستها وكان لهذا أثره على الشاعر الذي جعلته الظروف تابعاً لغيره وجعلت فنية شعره استجابة لما يريده الاخرون مع العلم أن هذا الشعر يحتل المكانة العالية في مجالس الخلفاء، بينما غيره من الشعراء لم يتح له الاقتراب من هذه المجالس والتمتع بما تفيضه من خيرات وهبات ، إلا إذا دس الشاعر عينيه على حماة اللغة وسدنتها الذين يحتلون الصدارة فيها. ولذلك كانت هذه المحافظة الشديدة لدى الشعراء حتى غير العربي منهم لأنه خشى أن يتقدمه الشعراء العرب الأقحاح، سواء أكان ذلك تصدر هذه المجالس التي يجب أن تظل العربية فيها قوية مزدهرة ، أم في ذيوع شعرهم وجريانه على ألسنة الناس، ومن أجل ذلك كان حرصهم على التعمق في سبر اغوار اللغة ، وانتقالهم إلى البادية لمشافهة الأعراب والمحافظة على الصورة المألوفة والمرجوٌ اصالتها للغة العربية ،و كما يريد لها علماؤها الذين شعروا بالمكانة العالية التي يتمتعون بها، فاخذوا يبالغون ويتشددون في المقاييس التي يزنون بها الشعر، ولهذا بقي الشعر القديم الجاهلي او الاموي المثل الأعلى الذي يتوجب على الشاعر في من يحاكيه ويحذو حذوه، فأخذ ينظر إلى التراث القديم نظرة تقديس يصعب معها أي حركة للتطور الشعري فتنغلق اغلب المنافذ الاتية منها رياح التجديد فيه .
كان من اسباب سقوط الدولة الاموية وقيام الدولة العباسية والذي له ابلغ الاثر في الناحية الثقافية والادبية ان الامويين اتبعوا سياسة التعصب للعنصر العربي الذي اعتبروه هو النسغ الصاعد او الناقل الحياة الى جسم الدولة المترامية الاطراف مما أ ّلّب عليها الفئات غير العربية التي اصبحت ضمن حدود الدولة الاسلامية المحكومة من قبلهم اضافة الى ذلك ان العرب انفسهم من اعداء الامويين من العرب مثل العباسيين ومنهم العلويين خاصة قد وضعوا ايديهم بأيدي هذه الفئات غير العربية وتحالفوا معها على اضعاف الهيمنة العربية على مرافق الدولة والعمل على اضعافها ومن ثم اسقاطها ومن اكبر هذه التحالفات – الفارسية العربية - حيث اخذ الفرس يشعرون بقيمة رد اعتبار سلطة الدولة الفارسية فاتخذوا من الاسلام ذريعة لذلك واخذوا يعملون بجد على ا ضعاف العنصر العربي واتخذوا من العلويين والعباسيين شمّاعات يختلفون اليهم في تعليقهم عملهم السياسي وشموعا لتنير لهم طريقهم في ذلك . وبدأت تظهر لديهم حركات سياسية سرية في بداية امرها و تحولت بمرور الزمن الى قوة عسكرية تحالفت مع من اراد الاستحواذ على هيبـة الـدولة الامـوية واسقاطـها لامـور يعرفـها الســا سـة المنصفون . وقد عرجنا على ذكرها قليلا لارتباطها بالثقافة الادبية التي شملت كل مناحي الحياة ومنها السياسة.
كما ان للمنازعات الحزبية والتعصب القبلي يد طولى في سقوط الحكم الاموي فتجمعت كل هذه الاسباب والاحوال على بغض العنصر العربي الاموي او ما سار عليه الامويون اثناء حكمهم واخطاء بعض خلفائهم اثناء حكمهم فتجمعت كلها بقيادة العباسيين وبمعاونة التيار الفارسي وقاموا بثورة انطلقت شرارتها من بلاد فارس لتقضي على الامويين وتسقط حكمهم ولتقوم بدلها الدولة العباسية الجديدة الفتية سنة \ 132 هجرية.
قامت الدولة العباسية في العراق اثر سقوط الدولة الاموية في الشام وكان للفرس اثر عظيم وكبير في قيام الدولة الجديدة وفي سياستها وشؤونها وقد ادى ذلك الى تدخل الفرس بسياسة الدولة وقيادتها بحكم تعاملهم مع الحاكمين الجدد من العباسيين وقد ادى ذلك الى اقتباس الكثير من النظم والعادات والتقاليد الفارسية التي حلت محل العربية واخذ الناس في تقليد الفرس في اشياء كثيرة فأدى ذلك الى هيمنتهم على بعض المناطق وخاصة في بلاد فارس والثغور الشرقية للدولة الاسلامية فضعف النفوذ العربي فيها وزاد تدخلهم في شؤون الحكم والدولة التي اصبح الكثير من رجالاتها وقادتها من الفرس حتى اصبح العربي الذي كان يأنف ان يعمل في بعض الاعمال الحرة التي كان الفرد العربي يحتقرها ولا يزاولها الا مكرها , اصبح يزاولها طلبا للعيش والبحث عن لقمة تسد رمقه.
الا ان هذا النفوذ الفارسي ضعف في العراق ( دولة الخلافة العباسية ) بعد ان استتب الوضع الحكومي و نتيجة قوة الخلفاء العباسيين في الصدر الاول للخلافة العباسية كالمنصور بقتله ( ابو مسلم الخراساني ) والرشيد وما فعله بالبرامكة ما يسمى بنكبة ( البرامكة ) وضرب الخلفاء العباسيين الاوائل الحركات المجوسية التي ظهرت في وقتهم والقضاء عليها – الا انها انتعشت من بعدهم بعد حكم الرشيد وهؤلاء الخلفاء كانوا انفسهم من اسباب ضعف العنصر العربي في الدولة العباسية بسب زواجهم ازواجا فارسيات وتركيات او روميات فكان اولادهم منهن يميلون كل الميل الى اخوالهم وهذا ما فعله الخليفة المأمون اذ كانت امه فارسية حيث قرّب الفرس واعتمد عليهم في الحرب . و القضاء على اخيه الامين ( ابن العربية ) . وقتله وتسيير د فة الحكم . وما فعله المعتصم من بعده و امه تركية اذ قرب الاتراك وتسيير دفة الدولة فيهم مما طمّع هؤلاء وهؤلاء في السيطرة على الحكم بحيث اصبح الخلفاء العباسيون ضعافا من بعدهم بتصرف السلاجقة والبويهيين وجعلوا هؤلاء الخلــفاء كأدوات شــطرنج يتلاعبون فيهم وفي مصائرهم كيفما يشاؤون وظهر التطرف التركي اوالنفوذ التركي بدلا عن الفارسي وظهرت سيطرة الاتراك على الوضع السياسي وربـما الاجتـماعي والثقافي ايضا وساءت حالة المواطن العربي في وطنه وفي بلده في هذا الدور حيث لم يبق للدولة هيبة غير الخلافة وبالاسم والرسم فقط. وكذلك الحال في العصر البويهي .
هذه الامور وغيرها ادت الى تغيير في وجه الشعر العربي حيث ارتفع صوت الشعر السياسي ضد الامويين ونعي حكمهم المنهار كما تمثلت العصبيات القبلية بين العرب انفسهم واستعر اوارها بين قيسية ويمانية وعدنانية وقحطانية كما ظهرت حركة ( الشعوبية ) قوية جدا. وادت هذه الاحوال الى ظهور خلافات واسعة بين الهاشميين انفسهم وخاصة بين العباسيين والعلويين وصلت الى حد المقاتلة والعصيان والكراهية كما ظهرت الخلافات العقائدية والدينية المذهبية بين الطوائف والنحل المختلفة أي ان الفرقة وصلت في كل شيء نتيجة التوسع الطامي في الدولة الاسلامية وكان لكل فرقة او مذهب او عنصر او قوم او قومية ادباء وشعراء ورجال يقودونها ويحركونها سواء كانت حركات سياسية او دينية او عنصرية او قبلية او ثقافية..
ان الشعر العربي في هذا العصر نتيجة لتطوره الواسع وافاقه المتسعة تأثر بكل التيارات والاحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية و تعكسه كل ما تراءى لها من امور هذا بالاضافة الى تطور الثقافة الشعرية .
ومن جانب اخر عنى الخلفاء العباسيون في الثقافة عناية كبيرة وبذلوا المال بسخاء لتطويرها واغدقوه على الشعراء والعلماء والادباء والمفكرين وذوي الالباب والعلوم والثقافة بحيث تطورت كثيرا ومثالا على ذلك اذكر ما قام الخليفة المهدي و قد اعطى الشاعر ابا دلامة اربعة آلاف درهم عندما استحسن شعره وعندما علم ان ابا دلامة رزق ببنت اعطاه اربعة الاف اخرى . وقد اعطاه اربعة آلاف ثالثة ليعينه في تربية ابنته .
اما الشاعر سلم الخاسر فيدخل عليه وينشده:
أفنى ســـــؤال السائلين بجوده
ملك مواهبه تروح وتغتدي
هذا الخليفة جوده ونواله
نفدَ السؤالُ وجودُهُ لم ينفدِ
فيعطيه اربعة آلاف درهم ويدخل عليه مرة اخرى يمدحه
فيقول فيه :
إن الخلافة لم تكن بخلافة
حتى استقرت في بني العباس
شُدَّتْ مناكبُ ملكهم بخليفةٍ
كالدهر بخلِطُ لينه بشماس
فيعطيه اربعة آلاف درهم اخرى
ويمدحه ثالثة فيقول :
أليس أحق الناس أن يدرك الغنى
مُرجى أمير المؤمنين وسائله
لقد بسط المهديُّ عدلاً ونائلاً
كأنهما عدلُ النبي ونائله
اليس في هذا الكثير .
كانت المنافسة بين هؤلاء الخلفاء واسعة وشجعوا الترجمة من اللغات الاجنبية الى العربية فكانت رافدا جديدا يصب في بحر اللغة العربية فاتسعت الافاق وتبارى الرجال في السباق في ميادين العلم والثقافة والادب واللغة والدين فكان لذلك الاثر الكبير في قيام ثقافة عربية واسعة في هذا العصر ما زالت لحد الان تعد مفخرة من مفاخر الامة العربية وعصورها الذهبية .
كان لسيطرة الاتراك على الدولة العباسية وادارتها زمن الخليفة المعتصم بالله وما بعده اثر بالغ في ضعف الدولة وسيرها في طريق الانحلال والتقهقر فقد عمل الرشيد على تقوية دولته – كما توقع - فتزوج من زوجة فارسية ليقرب الفرس منه ويأمن جانبهم لانهم سيكونون اخوال اولاده منها وهم كثير في دولته اذ يشكلون الجزء الشرقي منها ويتخذهم انصارا له . وتزوج من اخرى تركية الاصل ليقرب الاتراك منه وليشدوا على عضده في صيانة دولته وكانوا كذلك في زمنه فانجب من زوجته العربية ابنة عمه ( زبيدة) ابنه (الا مين) ومن زوجته الفارسية ابنه ( المأمون ) ومن زوجته التركيه ابنه ( المعتصم ) وكان هذا فيما بعد سببا من اسباب سقوط الخلافة العباسية وبينما كان سبب هذا الزواج كان يقصد به توطيد العلاقة بين العرب والفرس والترك كنتيجة للمصاهرة والقرابة الا ان ما اثمره هذا التصاهر كان وبالا على الحياة السياسية الى حد الاقتتال .
بعد وفاة الرشيد اقتتل( الامين )و(المامون) الاخوة بينهم على سدة الحكم واستعان كل منهم باخواله والمقربين منه فاستعان الما مون باخواله الفرس على اخيه الامين في قتاله والوصول الى الخلافة فقربهم اليه واعتمد عليهم في كل امورالدولة وانعكس ذلك حتى في الامور الدينية والمذهبية وتفرق الخلق واقتتل الناس بينهم فكان ما كان و كتب التاريخ خير شاهد على ذلك وما فيها من معارك واحداث .
وبعدها أي بعد مقتل ( الامين) وانتصار (المأمون ) بمساعدة اخواله الفرس ووفاة (المامون). استخلف ( المعتصم) وامه تركية فقرب اليه الاتراك واعتمد عليهم في اغلب مفاصل الدولة العربية الاسلامية وعلى كل حال فقد دخل الى جسم الدولة او جسم الخلافة العربية من ليس منها وعمل على تقويضها . كان كل هذا قد بدء في العصر العباسي الاول واستمر وزاد في العصر العباسي الثاني.
وكان في اثناء وجود الاتراك في الحكم كان الفرس يتحينون الفرص لاعادة مجدهم الغابر او السالف فقاموا بقيادة ال بويه بحملة قوية اعلنوا سيطرتهم على بلاد خراسان واكتسحوا الخلافة العباسية في بغداد التي كان الاتراك مهيمنين على الحكم فيها وتنصب (معز الدولة ) الفارسي اميرا على بغداد في ظل الخلافة العباسية التي لم يبق منها الا اسمها ورسمها. اما الخلفاء العباسيون وبمرور الزمن تحولوا الى اشبه من بيادق شطرنج يلعب بهم اللاعبون من ال بويه من الفرس ومن بعدهم من ال سلجوق من الترك.
نعم لقد انحدر ت قوة وعظمة الدولة العباسية ا و بدأت بالانحدار نحو الاسوء بعد الخلفاء الاشداء فيها مثل المنصور والرشيد ... و سيطر البويهيون على الحكم الاسلامي في بغداد سنة \334 هجرية بعد ضعف سيطرة الاتراك عليها وان اغلب هؤلاء الامراء كانوا ضعافا في ادارتهم للدولة فسارت الدولة نحو الانهيار والتقهقر والانحلال ويعتبر إقدام القادة الأتراك على قتل الخليفة المتوكل على الله في الخامس عشر من شهر شوال سنة \ 247 هـجرية بداية العصر العباسي الثاني وفيه استبد القادة الاتراك بالسلطة وأصبح الخليفة العباسي طوع إرادتهم وأسير هواهم وقد عبر عن ذلك احد الشعراء فقال:
خليفـــة فـــي قفــص
بيـن وصيـف وبغـا
يقــول مـــا قــالا لـه
كمــــا تقول الببغا
وأدى هذا الضعف الى ظهور استقلال او انفصال بعض الامارات عن الخلافة العباسية في بغداد فبعد ان كانت خلافة اسلامية واحدة . اصبحت خلافة في بغداد وامارات مستقلة عنها في الاقاليم التابعة لها كالامارة الاخشيدية في مصر التي قامت على اثر انقراضها الدولة الفاطمية والتي اعلنت استقلالها عن الخلافة العباسية في بغداد بل نازعتها الخلافة وامتدت اجنحة حكمها شرقا وغربا وكذاك ظهرت امارات عديدة كالامارة الحمدانية في حلب ثم توسعت فشملت الشام كلها تقريبا الا انها بقيت معترفة بالسلطان العباسي عليها اسما فقط .وكذلك مثلها امارات قد نشات في الثغور الشرقية للبلاد الاسلامية وهكذا تفرقت الدولة الاسلامية الموحدة وظهرت خلافات وامارات في البلاد نازعت الخلافة الاصلية في كل امورها وخاصة الثقافية والادبية .
كان هؤلاء من خلفاء وامراء هذه الاقاليم قد جمعوا حولهم الشعراء والادباء والعلماء ورجا ل الثقافة والعلم وتباروا فيما بينهم حول جمع كل منهم العدد الاكبر من هؤلاء وبذلوا الاموال لهم منافسة بينهم فاثر هذا في ازدهار كل العلوم وعلى راسها الادب العربي وخاصة الشعر حيث كثرت فنونه وارتفعت رايته وارتقت خيالاته وفنونه . الا ان اللغة العربية بدأت تظهر عليها علائم الضعف في نهاية العصر ويكتنفها الوهن خاصة في الثغور الشرقية من الدولة الاسلامية لعجمية سكانها فبدات تحل مكانها اللغات المحلية او اللغة الاصلية لاهل تلك البلاد مثل اللغة الفارسية التي حلت محل اللغة العربية بعد قرنين من الزمن ودفعت الحالة الثقافية والاجتماعية شعراءهم الى نظم الشعر في لغتهم الفارسية كما فعل الشاعران عمر الخيا م وسعدي الشيرازي .
وكذلك ظهرت في البلاد الاسلامية عصبيات اشتد النزاع بينها ومذاهب دينية تقاسمت البلاد الاسلامية بينها كما اطلقت الحكومات الاسلامية العنا ن لليهود والنصارى للعمل كيفما يشاؤون وكذلك اختلفت وجوه المعاش وكسب الرزق او الحالة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد وانقسم الشعب بين غني مترف وفقير جائع ما هو لحال الان . وقيل التريخ يعيد نفسه .
فالقسم الاول وهم الامراء والقادة الحاكمون والمتنفذون والتجار واصحاب الاموال والاعمال عاشوا بترف غير معقول في كل امورهم في الملبس والمسكن وهم طبقات الخلفاء والامراء والقادة والتجار والشعراء المقربين والاغنياء .
واما السواد الاعظم من الشعب وهم الفقراء في المجتمع فهم راسفون في قيود من فقر مدقع وعيش ذليل وكسب قليل لا يسد اودهم ولا يسمنهم من جوع وقد انعكست كل هذه الاحوال على الادب والشعر في البلاد فكان ادب الاغنياء يتمثل بوصف القصور الفخمة والرياض الزاهرة والغزل والغناء والخمرة واللهو والترف و القسم الاخر يمثل حالة الشعب او السواد الاعظم فيتسم بالشكوى والحنين والبكاء وذم الزمن وصروف الدهر.
تجتمع الشعراء والادباء واصحاب القلم والعلم والمعرفة حول الخلفاء والامراء واصحاب النفوذ والجاه فانتشرت الثقافة في هذا العصر امتدادا لثقافة العصر العباسي الاول والتي آ تت اكلها في هذا العصر فنمت في ذاك و اثمرت او اينعت في هذا العصر وكذلك كان لصناعة الورق اثر عظيم في انتشار الثقافة ككل ونشوء المكتبات العامة والخاصة والمدارس النظامية الحكومية بجانب المدارس الخاصة والتعليم الفردي لابناء الخلفاء و الوزراء ... لكل هذا اثر عظيم في تقدم الثقافة ووصولها الى اوج عظمتها في الدولة الاسلامية وتقدم الشعر واتساع افاقه واخيلته وتحسين معانيه فازدهر في هذا العصر اكثر من باقي العصور العربية وبلغ شأوته وظهر فحول من الشعراء كالمتنبي وابي العلاء المعري وابي فراس الحمداني وابن النبيه والشريف الرضي وغيرهم ..
لذا يمكننا ان نقول ان هذا العصر او العصر العباسي هو العصر الذهبي للشعر العربي بما اوتي فيه من نتاج وتجديد في المعاني والاساليب لشعرية ورقة في النظم والالفة في القول .
ولما استولى البويهيون على السلطة بعد الأتراك انتهجوا نهجهم فكان الأمير البويهي يولي الخلافة من يشاء من اولاد الخلفاء العباسيين ويخلعها ممن يشاء وكثرالخلع وتبديل الخلفاء . و كثيرا ما يتم بالذل والهوان. حتى اصبح يوم خلع الخليفة يوم ابتهاج عند الجند وفيه يجري نهب دار الخلافة وفيه يطالب الجند الخليفة الجديد برسم ( بيعته). وكان يجري على الخليفة المخلوع نفقة قد لا تكفيه, فيضطر إلى العيش بالكفاف وربما استعطف الناس الميسورون على الخلفاء المخلوعين .
وكذلك الوزراء فلم يكن حال الوزراء بأفضل من حال الخلفاء فكان الوزير يأتمر بأمر المتغلبين والمتنفذين في ا لسلطة فإذا غضبوا عليه عزلوه وصادروا أمواله وربما يقتلونه وكثيرا ما كان الوزير يُنصب ثم يُعزل, ويتكرر نصبه وعزله مرات عديدة وغالبا ما كان ينتهي عزله بمصادرة امواله ومن ثم قتله ومع ذلك فإن الكثيرين كانوا يطمعون في تولي الوزارة, ويبذلون المال في شتى المجالات في سبيل توزيرهم. كما هو الحال لدينا الان حيث أن الوزارة كانت موردا للثراء الفاحش عن طريق الرشاوى وقيل أن ( محمد بن عبيد الله بن خاقان ) وزيرالخليفة ( المعتضد بالله ) كان يأخذ الرشوة من كل طالب وظيفة وربما عين للوظيفة الواحدة عددا من الموظفين وقيل إنه عين في يوم واحد تسعة عشر ناظرا للكوفة وأخذ من كل واحد منهم رشوة معينة . الا ان بعض الوزراء كان حسن السياسة ذا دهاء وذكاء يستطيع أن ينال من الخليفة أو الأمير البويهي تفويضا بتصريف أمور الدولة وكان أهم هذه الامور ضمان الخراج وتعيين الولاة والعمال والقضاة والكتاب لذا يكون للوزير على من يوليه جبايات يجني منها ربحا وفيرا ويثري به ثراء فاحشا. و من أجل ذلك كانت الوزارة هدفا للدسائس والحسد . وكثر الطامعون في منصب الوزارة, فإذا أفلح الدس وغلب اهله على الوزير عزل هذا الوزير وصودرت أمواله وكان ما يصادر يعد بآلاف الآلاف من الدنانير لذا كان بعض الوزراء يطمرون خزينهم من الاموال والنقد تحت الارض الى أن تنتهي الازمة
و قيل في ذلك:
إذا أبصرت فـي خلـــــع وزير
فقل أبشر بقاصمة الظهــــــور
بأيام طـوال فــي بــــــلاء
وأيام قصــــار في ســــــرور
وكان العرب – ولا يزالون – يتكنـّون - وهي عادة عربية قديمة - بأسماء أكبر أبنائهم فيقال ابو فلان مثلا وكان الخلفاء يتلقبون ب ( أمير المؤمنين) منذ عهد الخلفاء الراشدين في زمن عمر بن الخطاب وما بعده من الخلفاء الراشدين وكذلك خلفاء بني امية .
وعندما انتقلت الخلافة إلى بني العباس أضافوا إلى هذا اللقب ألقابا اخرى تدل على صفة يتميز بها الخليفة. فقد عرف عبد الله أبو العباس وهو أول خليفة عباسي بلقب (السفاح) وتلقب أخوه الخليفة عبد الله أبو جعفر بلقب (المنصور) وتلقب ابنه الخليفة محمد بلقب (المهدي) وتلقب الخليفة موسى بلقب موسى (الهادي) والخليفة هارون لقب ب(الرشيد). ولقب الرشيد أولاده الثلاثة: محمد وعبد الله والقاسم بلقب محمد (الأمين) وعبد الله (المأمون) والقاسم (المؤتمن). وهكذا جرت العادة في تلقيب الخلفاء واولادهم .
ولما استبد القادة الأتراك بالسلطة فرضوا على الخليفة ان يطلق لقب على من بيده السلطة منهم لقب ( أمير الأمراء) ولما جاء من بعدهم البويهيون الزموا الخليفة العباسي ان يطلق عليهم ألقابا فيها معنى الاعتراف بسلطانهم فلقب ( أحمد بن بويه ) بلقب (معز الدولة) ولقب أخوه علي بلقب (عماد الدولة) ولقب أخوه الحسن بلقب (ركن الدولة), وهكذا كثرت الالقاب في الدولة كعضد الدولة وجلال الدولة وبهاء الدولة وفخر الدولة. حتى ان منهم من لقب بلقب ( السلطان ) او ( شاهنشاه ) أي (ملك الملوك ) ثم سرت هذه الحالة في امراء الدويلات المستقلة .وهكذا كثرت الكنى والألقاب في العصر العباسي الثاني ويقول احدهم في ذلك شعرا :
أما رأيت بني العباس قد فتحوا
من الكنى ومـن الألقاب أبوابا
ولقبوا رجـلا لو عاش أولهم
ما كان يرضى به للقصر بوابا
قـل الدارهم في كفي خليفتنا
هذا فأنفـق في الأقـوام ألقابا
وقد نهج الخلفاء الفاطميون نهج الخلفاء العباسيين في الألقاب فكان منها المهدي بالله والعزيز بالله والمعتز بالله والحاكم بأمر الله والمستنصر بالله,
وفي الأندلس تسمى عبد الرحمن الثالث بن محمد ب (الخليفة ) واتخذ لنفسه لقب ( الناصر لدين الله ) ونهج من جاء بعده نهجه فكان منهم المؤيد بالله والمستعين بالله والمستظهر بالله والمعتمد على الله.
واتخذ ملوك الطوائف في الأندلس الألقاب فكان منهم المعتضد بالله ملك أشبيلية وابنه المعتمد على الله وكانت هذه الألقاب على ضخامتها لا تمثل لمن اتخذها لنفسه شيئا من معانيها .
وظهرت في ذلك العصر الفتن المذهبية ثارت بين الشيعة وبين السنة, وخاصة الحنابلة منهم, فتن كثيرة وكبيرة كان مسرحها بغداد . وقد بدأت في أوائل القرن الرابع الهجري وامتدت إلى أواخر القرن الخامس الهجري وكانت تتوالى الفتن عاما بعد عام . وكثيرا ما كانت تشتد. فينشب فيها قتال مرير بين ابناء البلد الواحد والمدينة الواحدة على حساب المذهب او باذكاء هذا الخلاف من قبل رجال الدين من هذا المذهب او ذاك لاستفادتهم الشخصية وعلو مكانتهم الدينية في مثل هذه الاوضاع وظهورهم للقيادة .
وقد أزر البويهيون الشيعة في تشيعهم, وشد الأتراك أزر أهل السنة لأخذهم بمذهبهم وقد افضت هذه الامور الى اشتداد العداء بينهم الى حد المقاتلة فقتل خلق كثير من الطرفين جراء ذلك وكانت بغداد اول ساحة لمثل هذه المقاتلة والفتن .
وكذلك كانت الفتن تحدث بين الحنابلة والأشاعرة وبين الحنفية والشافعية, فكان أهل كل مذهب يتعصبون لمذهبهم ويدفعهم التعصب إلى القتال بينهم مما اثر في خراب المدن واضعاف شوكة المسلمين وقوتهم وكانت بغداد مسرحا لمثل هذه الامور والاحداث وقد كانت هذه وغيرها اسبابا لنشوب ثورات كثيرة في البلاد الاسلامية مثل ثورة الزنج وثورة القرامطة في الجنوب وكذلك ادى الى انفصال بعض الاقاليم عن جسم الدولة العباسية واقامة اقاليم وامارات في البلاد وخاصة البعيدة عن الخلافة وربما خلافات جديدة مستقلة عن الخلافة العباسية . مثل الدولة الاخشيدية والخلافة الفاطمية والامارة الحمدانية والدولة الصفارية .
فوجود الدويلات والامارات وخاصة غير العربية المنسلخة من جسم الدولة العباسية ضمت بين اهدافها هذه الامور.ثم كانت هذه الانقسامات سببا واسعا وكبيرا لقيام الحروب الصليبية وطمع الدول الاوربية تحت علامة الصليب في القضاء على الدولة الاسلامية او الاستحواذ على بعض اجزائها المقدسة لديهم وخاصة ( فلسطين ) وفي صفحات التاريخ الشيء الكثير الكثير والشواهد القائمة على ما ذكرناه .
كان لهذه التطورات السياسية اثرعظيم في الشعر العربي وتقدمه وازدهاره فقد كانت بغداد ام الدنيا ومركز الخلافة العربية الاسلامية ومركز الثقافة والعلوم وفيها جل الشعراء الا انه ظهرت حواضر و مدن اخرى اجتمع فيها الشعراء هي مراكز الامارات كحلب والقاهرة وجرجان وشيراز وبخارى وسمرقند والاندلس وامارات دويلاتها وغيرها و كل امير من امراء هذه الامارات حاول ان يجمع حوله العديد من الشعراء والادباء والمثقفين ويجزل لهم العطاء ويتباهى في جمع اكبر عدد منهم لحبهم الادب وخاصة الشعر وليمدحوهم ويذكرونهم في شعرهم فادى هذا التنافس حتما والى ايجاد المنافسة بين الشعراء والادباء دفعت الشعر نحو علائم التقدم والرقي الثقافي والحضاري في كل مجالات الحياة بم يضمن حية افضل لهم .
لذلك فقد اجزل الخلفاء والامراء العطاء للشعراء الذين نالوا حضوة كبيرة عندهم حتى بلغ بهم حد الاستيزار ورئا سات الدواوين الكتابية وخاصة اذا علمنا ان بعض الا مراء والخلفاء كانوا يجيدون نظم الشعر وقرضه ونقده . لكن هذه الامور والحالات وكثرة الادباء والشعراء وفيهم الموالي ومن غيرالعرب اوقف عملية الاستشهاد في اللغة العربية في الشعر في هذا العصر واقتصر لما قبله على العصر الاموي وربما قليل في بداية العصرالعباسي ولعدد محدود من الشعراء والادباء الافذاذ في العربية .
******************************
ملامح التجديد في
خصائص ومعاني واساليب الشعرالعباسي
ان اساليب الحياة وطرق الكسب والمعيشة تغيرت في العصر الاموي وكان لكل ذلك اثره الكبير في تطور تيار الشعر العربي بحيث ظهرت فنون شعرية جديدة لم تكن موجودة او معروفة . ووصفت الحياة ومظاهر الحضارة الجديدة على حالتها التي وصلت اليها من قصور ورياض ومواسم واعياد وقد ادى ذلك الى ارتقاء الشعر درجات اعلى في سلم الثقافة العربية.
فاندماج الشعراء في الحياة العامة اثرت فيهم الثقافات الاجنبية ونمو مداركهم وزيادة معلوماتهم وتطور الحياة الحضارية في هذا العصرتطورت اساليب الشعر العربي في العصر العباسي كثيرا جراء اطلاع الشعراء على الصر فقد مال الشعراء الى استخدام الاساليب السهلة المفهومة المنسوجة من واقع الحياة المعاشة وابتعدوا عن اللفظة الصعبة او البدوية التي قل استعمالها او هجرت في الاغلب نتيجة ترفية المجتمع وتقدمه وتحضره واستعملوا المحسنات البديعية والالفاظ الجديدة تبعا لتطور الامور وحتى وصلت الحال في بعض الشعراء من استخدام الفاظ اعجمية في شعره وقد نشير ان مفهوم الأسلوب يعني الطريقة او السلوكية التي يتبعها الشاعر في نظم شعره فيقال مثلا سلكت أسلوبه وتعني طريقته وكما يقال كلامه أسلوبه الافضل .
و استعمل الشعراء المحسنات البلاغية و البديعية من طباق وجناس وتشبيه واستعارات وكثرت هذه بشكل ملفت للنظر في هذا العصر واول من استخدم هذه الامور بشار بن برد ومسلم بن الوليد ( صريع الغواني ) والبحتري وابو تمام وابن المعتز
ومن شعر بشار بن برد يقول :
جفا جفوة فازور إذ مل صاحبه
وأزرى به أن لا يزال يصاحبـه
خليلي لا تستكثرا لوعة الهوى
ولا لوعة المحزون شطت حبائبه
وحسن الشعراء بها اقوالهم الشعرية وكانت قبلهم تاتي هذه المحسنات عفوية على السنة الشعراء قبلهم وبالاجما ل فان الشعر في هذا العصر تطور تطورا واسعا وعظيما وكثرت فيه الصناعة اللفظية والصور الشعرية في جميع اموره وفي شتى المجالا ت الادبية الشعرية واللغوية والفنية .
و كلمة الأساليب الشعرية التي تجري على ألسنة الشعراء والادباء والنقاد في بعض الاحيان المراد بها التراكيب اللغوية بمعنى انفصالها عما تدل عليه من معانٍ كانت مضمرة في نفس الشاعر الاخر وهو إيهام يجعل من الأسلوب كلمات مرصوفة ذات حروف ومقاطع ربما تدل على فهم شيء للأسلوب حيث يهب الحياة والجمال أو الجمود والقبح لذلك النص او هذا .
وبالجملة هو طريقة التعبير بالألفاظ المترتبة على معرفة ترتيب المعاني في النفس في طريقة الأداء اللفظي لما ينسقه الفكر من معانٍ وينظمه العقل من أفكار ازاء الطريقة التعبيرية التي ترتبط بالمعاني اذ ان أول ما تحدث في هذا المعنى وأنه ربما يعتمد في نظريته على الاعتداد بمجموع ما يذكره في مواضيع مختلفة اذ إنه لا يتصور أن يعرف للفظ مواضع من غير أن يعرف معناه و أنما يتوخى الترتيب في الألفاظ - من حيث هي ألفاظ ترتيبًا وتنسيقا ونظمًا أي يتوخى الترتيب في المعاني ويعمل الفكر في انتقاء الالفاظ ويقتفي آثارها بحيث تترتب بخدمة المعاني وتبقى تابعة لها او لاحقة بها مع العلم بمواقع المعاني في النفس او بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق و يقوي النص في الأسلوب او بمعنى اخر هو الأداء اللفظي المطابق للصورة الذهنية لمفهوم الأسلوب الناجم عن قدرة الملكة في اللسان العربي بحيث يكون ثمرة الاعتماد على الطبع والالهام والتمرس على ايجاد الكلام البليغ الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه ما يعتمل في قلبه ونفسيته من احاسيس وهنا تكمن وظيفة البلاغة والبيان .
فالأسلوب هو الصورة الذهنية للتراكيب المنظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وشخوصها بحيث يصيرها في الخيال كالقلب في الانسان ثم ينتقي التراكيب الصحيحة على اعتبار النحو والبيان فينسقها فيه تنسيقا متراصا كما يفعله البنّاء في قالبه الخاص أو النساج في المنوال حتى يتسع ذلك بحصول التراكيب الاسمى بمقصود الكلام للحصول على الصورة الامثل والافضل والاقرب لملكة اللسان للشاعر العربي . لذا فلكل فن من الفنون من الكلام أساليب تختص به وهذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء وإنما هي حالة قد ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في الشعر العربي تجري كجريانها على اللسان كي تثبّت صوتها و صورتها المطلوبة في تقريبه إلى فهم المتلقي بشكل اسنى وافضل والتي تمثل منزلة الروح من الجسـد فالخيال في الأسـلوب بوسائله المسـتعارة وما يتصل بالمعنى اتصالا وثيقًا بطريقة مرنة من طرق التفكير حيث أنه الأداة الواضحة للتعبير فهو طريقة التعبير اللفظي الحادثة على تنسيق الفكرة والمعبرة عن أدق خفاياها ومدار جودتها أو انها طريقـة التنسـيق ومدى نهوضها بالمـعاني المعبـرة عما في دواخلها او ما تكتنفه من معان بليغة . لاحظ قول البحتري:
كأ ن الرياض الحور يكسين حولها
افانين من افواف وشي ملفق
اذا الريح هزت نورهن تضوعت
روائحه من فائر مسك مفتق
كأن القباب البيض والشمس طلعة
تضاحكها انصاف بيض مفلق
لقد صاغ الشعراء العباسيون أساليبهم في ضوء حضارة الدولة وثقافتها وطريقة تذوقها للفنون لذا جاء الأسلوب الشعري اقرب إلى الرقة في النسج والدقة في التصوير والدماثة في التعبير وشاعت في حواشيه ألوان من الزخرفة اللفظية وضروب من الزينة والجمال واكتنفت أنغامه حالة من الفخامة المؤثرة والتي قد تهز العواطف وتحرك المشاعر وتثير الاحساس . فالشعراء الاكثر تحضرا يميلون بطبعهم إلى الكياسة والزينة والانس في كل شيء فالطبع الحضري تستهويه الأناقة في كل ما حوله ويجذبه التأنق وتقربه اليها وهو ما يدلل على تطور هذه الأذواق ورقيها وهذا سبب قوي في ايجاد أسلوب شعري تركن اليه النفس لتستريح عنده في حسن صياغة أ نيقة مثل مرآة صافية وصقيلة عاكسة على صفحتها كل فنون الجمال والتنسيق الاسنى والافضل نلاحظ قول بشار في ذلك :
ومخضب رخص البنا ن
بكى عليَّ وما بكيته
يا منظرًا حسنًا رأيـ ـت
بوجه جارية فديته
بعثت إليَّ تسموني
ثوب الشباب وقد طويته
ثم حالة جديدة ونقصد بها السهولة في الاسلوب ذلك الأسلوب اللين الذي يميل إلى العامية و يقرب منها أو يؤثرها بعضهم وهذه السهولة ربما حاولها غيرهم في أساليبهم فيخفقون وينكصون عن الايتاء بمثلها وتستعصي عليهم وتمتمنع عنهم امتناعا ربما يكون عند بعضهم شديدا قد يسلمهم إلى اليأس وينتهي بهم إلى الحيرة المشوبة بكثير من الإعجاب.وهذا ما نسميه في مجال الشعر بالسهل الممتنع وقد نسج فيه كثير من الشعراء في هذين العصرين منهم ابو العتاهية :
نلاحظه يقول :
كَمْ رأينا مِنْ عَزِيزٍ
طُوِيتْ عنه الكشُوحُ
صاحَ منه بِرَحِيلٍ
صائحُ الدَّهْرِ الصَّدُوحُ
موتُ بعضِ الناسِ في
الأرْضِ على قومٍ فُتُوحُ
سيصير المرءُ يوماً
جَسَداً .. ما فيه رُوحُ
ومن الواضح في هذا العصر ميل الشعراء الى المبالغة والتهويل وربما كانت هذه بسبب الاختلاط الثقافي والتاثر بالاخرين من الشعوب المجاورة للعربية وخاصة الفرس حيث تأصيل هذه الظاهرة و جذورها في تأثير الفرس وطغيان ثقافتهم، فقد كانوا مولعين منذ القدم بالإغراق في المبالغة، ووجد هذا الاتجاه صدى طيباً عند الخلفاء والامراء ، فاضطر شعراء العربية إلى مجارتهم كيلا ينفردوا بانعام الخلفاء عليهم مما تمتلئ به قصور الخلفاء من امور التمتع واللذائذ. فأصبح همّ الشاعر محصوراً في التفوق على غيره في الإبداع ونزوعه إلى الإفراط والتهويل . وكان المدح قد حظى بالنصيب الاسمى من هذه الحالة وقد امتدت منه إلى غيره من فنون الشعر .
وقد ترك اغلب شعراء هذا العصر كثيرا مما كان يسير عليه الشعراء في الجاهلية كاستهلال القصيدة بالغزل . ووصلت الامور الى ان تهكم بعض الشعراء من هذه الطريقة واعتبروها بالية و سخروا من الشعراء الذين حافظوا عليها.
يقول ابو نؤاس :
قل لمن يبكي على رسم درس
واقفا ما ضر لو كان جلس
وكذلك لاحظ دخول الشعر بعض الالفاظ والاصطلاحات العلمية واللغوية كقول الشاعر ابو تمام في الخمرة:
خرقاء تلعب بالعقول حبابها
كتلاعب الافعال بالاسماء
وكذلك كثر استعمال المحسنات الكلامية البلاغية كالبديع والطباق والجناس والتشبيه الفردي و التصويري والاستعارات المختلفة وتفنن الشعراء فيها وتزيينهم لشعرهم بها كل قدر امكاناته اللغوية وقدراته البلاغية والشعرية وقوة شاعريته :
يقول البحتري:
فلم ار مثلينا او مثل شأننا
نعذب ايقاظا وننعم هجّدا
وكذلك كثر استعمال الكلمات الاعجمية في الشعر فوجد فيه كلمات اعجمية مثل الديباج او الفاذولج وخاصة الفارسية فالشاعر كأنه يتحدث إلى جمهور مزيج من العرب والعجم ويعيش في بيئة حضرية يقول ابو نؤاس :
لاتبك ليلى ولا تطرب الى هند
واشرب على الورد من حمراء كالورد
وقال في الخمرة ايضا :
صفة الطلول بلاغة القدم فاجعل صفاتك لابنة الكرم
او قوله :
بنيت على كسرى مدامة
مكللة حاناتها بنجوم
فأوردّ في كسرى بن ساسان روحه
اذاً لاسطفاني دون كل نديم
ويتبين مدى هواه الى الفارسية وحنينه الى المجوسية في شعوبية واضحة .
و في هذه البيئة الجديدة نجد انها :
اولا : قد ا بتعدت بالشباب الجديد عن صلابة حياة البادية وصعوبة أنماطها في الصحراء العربية فلم تعد ملكاتهم العربية الأصيلة وقابلياتهم النفسية قادرة على التماسك ازاء هذه التغيرات فلانت انفسهم واحوالهم بالحضارة العباسية وتأثروا بالوافد الجديد الذي حبب السهولة إلى نفوسهم وخلطها بأذواقهم.
نلاحظ احدهم يمدح الخليفة الرشيد فيقول:
من يلقه من بطل مسرندي
في زعفه محكمة بالسرد
تجول بين رأسه والكرد
لما هوى بين غياض الاسد
وصار في كف الهِزَبْر الورد
وثانيهما: أن الشعراء أنفسهم كانوا – غالبًا - من هذا المزيج ولكن مواهبهم الفنية كانت تعطفهم إلى النهج العربي الصميم وثقافتهم العربية وآدابها و كانت تشد من ملكاتهم فيما يتصل بالتعبير ولهذا كانت أساليبهم في يسرها من باب السهل الممتنع بما تضمنت من رقة آسرة وعذوبة خلابة. والشعراء الذين ا دخلوا هذه الالفاظ في الاغلب اما من اصل فارسي او يميلون الى الاصول الفارسية او لهم اطلاع واسع في اللغة الفارسية كابي نؤاس وابن الرومي وابن المعتز.
يقول ابن المعتز :
قم نصطبح فليالي الوصل مقمرة
كانها باجتماع الشمل اسحار
اما ترى اربعا للهو قد جمعت
جنك وعود وقانون ومزمار
ثم ا دخلت الى اساليب الشعر الفاظ فلسفية و علمية وكل ما احاط بالشعراء من امور ثقافية ومعالم وتطور وابتذال وقوة اسلوب وجد وهزل في شعر هذا العصر والشاعر من ابدع فيها واجاد .
.نلاحظ قول ابي العلاء المعري :
اذا رجع الحصيف الى حجاه
تهاون بالشرائع وازدراها
فخذ منها بما اتاك لب
ولا يغمسك جهل في صراها
وهت اديانهم من كل وجه
فهل عقل يشد به عراها
وكان من اثار تطور الحياة العامة في العصرالعباسي ان تطورت الحضارة والثقافة والسياسة وتطورت تبعا لها معاني الشعر واخصبت اخيلة الشعراء وازدحمت بشتى معالم الحياة وتفنن الشعراء في معاني الشعر فقد تصرف الشعراء اولا بمعاني شعر الاقدمين قبلهم واضفوا عليها طابعا من الحسن والطرافة ورقة حواشي الصور الشعرية والبلاغية فاستخدم الشعراء اقيسة منطقية وتعبيرات لغوية تكاد تكون جديدة فيما البسوه لها من قشابة الالوان وتباين الانواع فاحسنوا التصوير والابداع واتسعت اخيلتهم الى افاق واسعة اضافية فجاؤوا بها وتظهر هذه الابداعات في التشبيه وسعة الخيال الشعري وما اكتنفه من اضافات في محسنات اللغة من طباق وجناس و بيان اضافة الى التراكيب اللفظية والصور الجميلة وتسلسل المعاني وتلاحمها فمن تصرف الشعراء بمعاني الاقدمين قول الشاعر سلم الخاسر:
فانت كالدهر مبثوثا حبائله
والدهر لا ملجأ منه ولا هرب
ولو ملكت عنان الريح تصرفه
في كل ناحية ما فاتك الطلب
ومن تطور واستعمال الاقيسة المنطقية قول الشاعر البحتري:
دنوت تواضعا وعلوت مجدا
فشأناك انحدار وارتفاع
كذاك الشمس تبعد ان تسامى
ويدنو الضوء منها والشعاع
ومن حسن الابداع والتصوير الشعري الحسن قول الشاعر المجدد بشار بن برد متغزلا:
يا قوم اذنى لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
فقلت احسنت انت الشمس طالعة
اضرمت في القلب والاحشاء نيرانا
ولو لاحظنا معاني الشعر في هذا العصر لوجدنا انها تطورت وتوسعت كثيرا الى حد لا يمكن حصره وتحديده بكلمات نكتبها عنه فمنها ما قيلت بحالة من الرقي والقوة والمتانة بعيدة عن الا بتذال والاسراف فكانت قصائد ذات معان راقية متطورة وخاصة تلك التي قيلت في المدح والفخر او تلك التي اختصت بالسياسة والاجتماع اوالتي قيلت في الرثاء والهجاء والغزل المحتشم . ومنها من اكثر في الاسراف الى حد الغلو في المجون والابتذال وبالكلمات الرخيصة وخاصة تلك القصائد التي قيلت في الغزل والمجون والغزل بالمذكر وما اليها والتي لم تكن معروفة لدى الشاعر العربي او كان يأنف ان يقول فيها قبل هذا العصر.
وكذلك ظهرت المعاني الفلسفية في الشعر فكانت في اغلب الاحوال معقدة وصعبة الفهم . الى جانب الشعر التعليمي وتأييد المعرفة او نشرها عن طريق الشعر .
وعلى العموم صارت ارضية المعاني الشعرية خصبة يتصرف بها الشاعر او ياتي بها على هواه وامتداد سعة خياله الذي حلّق في الافاق عند بعض الشعراء الخالدين مرتكنة الى ثقافته . وكذلك ادخلت على الشعر الرموز الصوفية والفلسفية والاخلاقية وكانت بداية للرمزية في الشعر العربي وقد رقت معاني الشعر في الاغلب وكثرت فيه المحسـنا ت اللغويـة برقة الكلمات والبلاغية كالبديع والبيان والتشبيهات المختلفة والصناعة الشعرية
نلاحظ قول ابي فراس الحمداني في التشبيه يقول :
لبسنا رداء الليل والليل راضع
الى ان تردى راسه بمشيب
بحال ترد الحاسدين بغيظهم
وتطرف عنا عين كل رقيب
الى ان بدا ضوء الصباح كانه
مبادى نصول في عذار خضيب
كل ذلك كان في اسلوبية شعرية اختلفت في هذا العصر لما اصابها من تقدم وتطور بحيث اصبح لكل شاعر اسلوبه الخاص او يكاد ان يكون هكذا فقد اختلفت الاساليب تبعا لنفسية الشاعر وحالته التي يعيشها و البيئة التي قيل فيها الشعر بعد امتداد الدولة العربية من الصين شرقا حتى بلاد الاندلس والمغرب العربي غربا فالبيئة الشرقية في فارس وشرقيها اساليب الشعر فيها اختلفت عما هي عليه في مصر والشام وبلاد الاندلس او المغرب العربي كما اختلفت اساليب شعراء الجد عن اساليب شعراء الهزل .
فالشعراء الجادون اسلوبهم فيه القوة والمتانة وحسن اختيار اللفظ والديباجة على غرار الاساليب الشعرية في العصور التي قبل هذا العصر مع فارق التقدم والتطور الذي شمل اللغة العربية وادابها على ايدي هؤلاء الفحول مثل المتنبي والمعري والحمداني والشريف الرضي وغيرهم بينما امتاز الشعر الهزلي بسهولة اسلوبه وسطحية فكرته وادخال الشعراء بعض الالفاظ الفارسية والعامية فيه .
الشعر عامة في هذا العصر غلبت عليه المحسنات اللفظية والبديعية وطغيان الصناعة اللفظية عند كثير من الشعراء فنجد الشاعر كانما ينحت نحتا في ايجاد الكلمة المناسبة واللفظة – صناعة شعرية - و اهتموا باللفظ على حساب المعنى وخاصة في شرق البلاد وفي بغداد وغيرها .
اما في الشام ومصر فقد ظل الشعر قويا متين البناء الا انه دخلته بعض الكلمات الغريبة والتعقيدات الكثيرة ودخلت اليه العلمية والفلسفة على ايدي بعض الشعراء .الا انها سايرت التقدم الحضاري ولم تتوقف .
كما استمرت عملية التجديد التي ابتدات في العصر العباسي الاول على يدي بشار بن برد وزمرته فغلبت على الشعر النعومة والرقة عند كثير من شعراء هذا العصر بل اغلبهم نلاحظ قول بشار يتغزل :
يا قوم أُذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحياناً
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم:
الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
وقد ظهر شعر المربع والمخمس وشعر الموشح والزجل والمواليا .... حتى ان بعض الشعراء من ادخل اللهجات الدارجة او العامية في الشعر مع المحافظة على بيان وروعة وبلاغة العربية كل حسب مقدرته وكفاءته الادبية وثقافته اللغوية .
********************