وهناك نوع اخر من الغزل هو الغزل الصوفي وهو نوع جديد
وقد تطرّق الصوفيون إلى الحب فجعلوا منه النور الذي يُستضاء به والسر الذي يتكئ عليه والمشعل الذي يسير الصوفي على هداه ليؤكدوا قاعدة اساسية هي ( أن الحب هو طريق الوصول إلى الله ) وهذا يعني أن غاية الحب القصوى هي الاتصال بالله مما يمهد الطريق للمعارف والإشراقات والفتوحات وتلازم الأقوال والأفعال مع بعضها ليكون الحب الإلهي قمة السلوك البشري الرفيع كالتوبة والإنابة والورع والزهد ، والتوكل والرضى .. وما إلى ذلك مما يدعو إلى التحرر من صرخة الجسد وطغيان الرغبات الحسية بالترفع إلى المعاني الراقية والمراتب الذوقية التي تنأى في كل الأحوال عن شؤون المعرفة العقلية حيث الذوقُ والكشفُ وميلُ القلب إلى الله وليس لسواه ، فيطيب عيشه فالحب الصوفي فناء مطلق يجعل من الحب والمحبوب كُلاً موحِّداً – لاحظ كتابي ( شرح ديوان الشيخ عبد القادرالكيلاني وشئ في تصوفه ) الجزء الاول صفحة 93-104 .
فالحب الروحي المثالي المجرد عن رغبة الجسد ونزوة الغريزة ، يجعل من صاحبه في حالة اندماج و التصاق حقيقي بالمحبوب فتتألق النزعة الوجدانية الصافية في شعر الحب الصوفي كما يقول السهروردي :
لمعت نارهم وقد عسـعس
الليل وملّ الحادي وحار الدليل
فتأملتها وفكري من البيـن
علـيل ، ولحظ الغرام الدخيلُ
وفؤادي ذاك الفؤاد المعنّى
وغـرامي ذاك الغرام الدخيلُ
ثم مالوا إلى الملام فقالوا :
خُلَّبٌ مـا رأيـت أم تـخييلُ
اما في فن الوصف فالشعراء بطبيعة انفسهم وداخلهم وصّافون وبسبب اتساع خيالهم و دقة ملاحظتهم فالشعر العربي زاخر بفن الوصف ابتداءا من العصر الجاهلي اما في العصر العباسي و نظرا للتطور الحضاري و النمو الاقتصادي فقد اتسع مجال الوصف وظهرت عدة اتجاهات في الوصف اهمها الاتجاه القديم وقد امتدت الحضارة لهذا الاتجاه بالتهذيب والتطوير وفقا للتطور الزمني والحضاري وفيه وصف الشعراء الرحلة في الصحراء ووصف الناقة و الفرس و الليل و النجوم و وصف المعارك و الحروب ومن ثم الاتجاه الحديث ويتمثل في الابتكار الجديد اذ كان نتاج التطور الحضاري و النمو الاقتصادي و شيوع الترف والاسراف وفيه وصفوا المظاهر الحضارية كالجسور والحدائق والبساتين والرياض والموائد والقصور والمآكل والمشارب. لاحظ قول ابي الفرج في وصف جسر جديد شيد
على نهر دجلة:
أيا حبذا جسراً على متن دجلة
بإتقان تأسيس وحسنٍ ورونق
جمالٌ وفخر للعراق ونزهة
وسلوة من أضناه فرط التشوق
كما وصفوا القصور وما فيها من فرش وأثاث ورياش وما يحيط بها من حدائق غنّاء تتغني فيها الطيور وتلعب فيها الظباء والغزلان و وصفوا الآلات الموسيقية والنغمية والألعاب ورحلات الصيد والطرد و وصفوا الخمرة ومجالسها وأدواتها وسقاتها وغلمانها وما يتردد فيها من أصوات المغنين والمغنيات.
اما فن الهجاء فنلاحظ فيه في العصر العباسي اتجاهين الهجاء السياسي والهجاء الشخصي وقد امتاز اللونان معاً بالسخرية الشديدة والإيذاء المؤلم فالهجاء السياسي في الاغلب اتجه نحو التركيز على الإنحراف الديني و نسب الشذوذ و الزندقة للمهجوين .
و مِنْ الهجاء السياسي او الهجاء العام قول دعبل الخُزاعي في هجاء المعتصم و الواثق:
خليفةٌ ماتَ لمْ يَحزنْ لهُ أحدُ
و آخرٌ قامَ لمْ يفرح به أحدُ
فَمَرَّ هَذا وَمَرَّ الشُؤمُ يَتبَعُهُ
وَقامَ هَذا فَقامَ الشُؤمُ وَالنَكَدُ
و الهجاء الشخصي اتجه نحو السخرية ورسم الصورالهزلية المضحكة والمعيبة للمهجو مثال ذلك قول ابن الرومي في هجاء رجل بخيل:
يُقتِّر عيسى على نفسه
و ليسَ بباقٍ و لا خالدٍ
فلو استطاع لتقتيره
تَنَّفس من مِنْخر ٍ واحدِ
والزهد ليس ظاهرةً جديدة على العصر العباسي إنما هو من عصر الصحابة او التابعين ثمّ العصر الأموي الذي برز فيه الكثير من الشعراء في أشعارهم بوادر للزهد والتصوف مثل الحسن البصري وقطع الأسباب المتصلة بالقلوب .لذا أصبح الشعر الذي ينظم في الامور الزهدية والدينية بذاته اصبح سلاحا حادا يواجه تيار الزندقة و الإنحرافْ و المجون.
و الزهد بحد ذاته يعتبر سلوكية يهدف للابتعاد عن الدنيا وهجرها والالتزام بالعبادات والطاعات الربانية .
أما التصوف فهو نزعة روحية خالصة اساسها المجاهدة والرياضة الروحية والوصول للكشف عن الذات الالهية. وقد ظهر من الرجال المتصوفين اشتهر الشيخ معروف الكرخي والجنيد البغدادي والحلاج والقاضي الفاضل وابن الفارض والشيخ عبد القادرالكيلاني والسهروردي . راجع كتابي ( الغزل في الشعر العربي ) صفحة 233- 258.
ومن النساءِ المشهوراتِ بالعبادة والصوم والاستغراق في الذات العلية الشاعرة رابعة العدوية و قد نادت بالحب الإلهي لاحظ قولها تناجي حبيبها الله تعالى :
أحبك حبين حب الهوى
وحبـًا لأنك أهلاً لذاكـا
فأما الذي هو حبّ الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك للحجبِ حتى أراكا
و شعر الزهد الخالي من الغلو يتجلى في شعر أبي العتاهية وشعر أبي نواس الشاعر الماجن بعد توبته في شيخوخته فله أبيات في الزهد تعد من روائع الشعرالعربي وقيل انه قالها في اخريات ايامه بعد أنَ تيقظ من غفلته و تاب إلى الله. لاحظ قوله في الزهد :
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرةً
فلقد علمت بأن عفوك أعظمُ
أدعوكَ ربِّ كما أمرتَ تضرعاً
فإذا رددت يدي فمن ذا يرحمْ
إنْ كانَ لا يرجوك إلا مُحسنٌ
فبمن يلوذ و يستجيـر المجرم
مالي إليكَ وسيلةً إلا الرجــا
و جميل ظني ثمَّ إني مسلـمُ
اما في شعرالحكمة وكانت هذه في الجاهلية ايضا قالها كثير من شعراء الجاهلية مثل زهير بن ابي سلمى ولبيد وقد أثرَّت حركة الترجمة الواسعة في شعر الحكمة فنجد أن بعض الشعراء في العصر العباسي استوعبوا الحكم اليونانية و الفارسية و الهندية التي ترجمت للفارسية ثم نقلها ابن المقفع وغيره إلى العربية فتمثلوا بها شعراً ، وضمنوا بعضها أبياتهم مثل كتاب كليلة ودمنة ذي الاصول الهندية او كتاب الأدب الكبير وكتاب الأدب الصغير اللذين نقل فيهما ابن المقفع من تجارب الفرس وحكمهم الكثير .لاحظ قول صالح عبد القدوس
حيث يقول :
المرء يجمع و الزمان يفـرق
ويظـل يرقع و الخطوب تمزق
ولأن يعادي عاقلا خيـر له
مـن أن يكون له صديق أحمق
فارغب بنفسك أن تصادق أحمقا
إن الصديق علي الصديق مصدق
وزن الكلام إذا نطقت فإنما
يبدي عيوب ذوي العقول المنطق
اما في الرثاء فقد أثرَّت الحضارة فيه فبعدَ أن كان الشعراء العرب ينظمون في البحور الطويلة اصبح الشعراء في هذا العصر ينظمون في البحور الخفيفة. وفي رثاء الخلفاء وليس جديدا على الشعر العربي رثاؤهم . لاحظ قول ابي نؤاس في رثاء الامين :
طوى الموت مابيني وبين محمّد
وليس لما تطوي المنية ناشر
وكنت عليه أحذر الموت وحده
فلم يبق لي شئ عليه أحاذر
كما بكى شعراء هذا العصر أبنائهم مثلما فعل الشعراء في العصور المتقدمة قبلهم و مِنْ ذلك رثاء ابن الرومي لابنه محمد حين توفاه الموت اوخطفته يد المنون :
بكاؤكما يُشفي و إنْ كانَ لا يُجدي
فجودا فقد أودى نظيركما عندي
بُنيَّ الذي أهدتـهُ كفاي للثـرى
فيا عزَّة المَهديّ يا حسرةَ المُهدي
ألا قاتل الله المنايا ورميـها
من القوم حبات القلوب على عمد
توخى حمام الموت أوسط صبيتي
فللَّه كيف اختار واسطة العقد
الا ان من جديد رثاء العصر العباسي رثاء المغنين والاحبة والاصدقاء و تضمن هذا الرثاء أوصافًا لم يعرفها الرثاء العربي.
و من ذلك قول أحدهم في رثاء المغني إبراهيم الموصلي:
بكت المسمعات حزناً عليه
وبكاه الهوى وصفو الشراب
وبكت آلة المجالس حتى
رحم العود دمعة المضراب
اما الخمرة فهي فنٌ أدبيٌ ليسَ بجديدٍ على الشعر العربي وإنما هو قديم ابتدأ قبلَ الإسلامْ ومن أشهرالشعراء في العصرالجاهلي في وصفِ الخمرة الاعشى وعمرو ا بن كلثوم ولما جاء الإسلام أمر بتحريمها وحدّ شاربيها وصانعيها وبائعيها . ولذا قلت معاقرتها والقول فيها واقتصر على نفرٍ قليل وفي العصر الاموي انبعثت من جديد على ايدي عدد من الشعراء من غير المسلمين مثل الاخطل .
اما في العصر العباسي فقد شاعت الخمرة وتوسعت مجالسها وكثرت حاناتها وزاد الإقبال عليها نتيجة الترف وكثرة اللهو ومجون العصر وانفتاحه ويبدو أن الحرية وراء هذا الإقبال وفي كل هذا قال الشعراء وانشدوا ومن اشهر من قال فيها الشاعر ابو نؤاس والشاعر غالب عبد القد وس الذي يقول فيها :
أديرا عليّ الكأس إنّي فقدتها
كما فقد المفطوم درّ المراضعِ
ومن قول ابي نؤاس فيها هذه الابيات :
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
لو مسها حجر مسته سراء
قامت بإبريقها والليل معتكر
فلاح من وجهها في البيت لألاء
فأرسلت من فم الإبريق صافية
كأنما أخذها بالعين إغفاء
رقت عن الماء حتى ما يلائمها
لطافة وجفا عن شكلها الماء
فلو مزجت بها نوراً لمازجها
حتى تولد أنواراً وأضواء
دارت على فتية دان الزمن لهم
فما يصيبهم إلا بما شاؤوا
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة
كانت تحل بها هند وأسماء
اما الفترة الزمنية التي تحدثت عن شعرائها فتشمل القرنين الثاني والثالث أي من \ 132هجرية - 746 ميلادية وحتى بداية القرن الرابع الهجري أي لسنة \400 هجرية .
فالشعراء الذين عاشوا في هذه الفترة الزمنية من الدولة العباسية هم من تحدثت عن اشهرهم في هذا المجلد على ساتبعه بمجلد اخر- باذن الله تعالى - اتحدث به عن شعراء الفترة الاخرى حتى نهاية الدولة العباسية بما فيها تلك الدويلات والامارات التي انفصلت عن جسم الدولة العباسية وتشكلت فيها حكومات محلية مستقلة او شبه مستقلة عن الحكم العباسي .
واعتذر ان اطلت قليلا فالدراسة موجزة والموضوع طويل.
د. فالح نصيف الحجية
الكيلاني
عضو الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق
عضو الاتحاد العالمي للشعراء والمبدعين العرب
عضو الاتحاد العام للادباء والكتاب العرب
عضو الاتحاد العام للكتاب والمثقفين العرب
**********************************************