شذرات من السيرة النبوية المعطرة
8
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله :
ذكرت في الحلقة السابعة اسئلة مشركي مكة للنبي صلى الله عليه وسلم وابجابة القرآن الكريم عليها وذكرت هجرة المسلمين الى الحبشة وما لاقوا في هاتين الهجرتين من صعاب ومن احترام النجاشي ملك الحبشة لهم. وفي هذه الحلقة اذكر ردة فعل القرشيين على المسلمين فاقول:
لحق المشركين الخيبة والفشل في استعادة المسلمين الذين هاجروا الي الحبشة ومن شدة غيضهم وكمدهم كادو ا ينقضّون على المسلمين في مكة فيقتلونهم حيث استشاطوا غضبا ولم يهدء لهم بال خاصة وانهم يرون النبي صلى الله عليه وسلم مستمرا في دعوته الى الاسلام والايمان بالله تعالى اذ شاهدوا ابا طالب يساعده ويحميه فاحتاروا في امرهم تكاد نفوسهم تميز من الغيض وصدق الله تعالى في قوله في القرآن الكريم رادا عليهم مخاطبا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ( قل موتوا بغيضكم) وعرض بعضهم عدة امور بين الترغيب والترهيب للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فمن ذلك تعذيبهم للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وللمسلمين وقد مر بنا مافعلوه بهم فكانوا يرجون من كل ذلك ايقاف دعوة الاسلام ولملمة شعث الكافرين والمشركين من قريش وغيرهم .
اما ابو طالب فقد استعلم ان قريش تحاول قتل النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقد طالبوه بتسليمه اليهم لقتله وتعويضه بشاب هو عمارة بن الوليد سيد شبابهم وافضلهم وانهد شبابهم واجملهم يعطونه الى ابي طالب بدلا من ابن اخيه فردهم ردا جميلا .
جمع ابو طالب بني عبد المطلب وبني هاشم لما راى قريش عازمة على قتل ابن اخيه محمد صلى الله عليه وسلم ودعاهم لحمايته فوافقوا على ذلك مسلمهم وكافرهم وتعاهدوا وتعاقدوا على ذلك عند الكعبة . الا رجل واحد من بني عبد المطلب فقد انحاز الى جانب قريش - هو عمه ابو لهب - فقد فضل ان يكون بجانب قريش ضد اقرب الناس اليه .
وقد قال ابو طالب في ذلك :
والله لن يصلوا اليك بجمعهم
حتى ا وسّد في التراب دفينا
فاصدع بامرك ما عليك غضاضة
وابشر وقر بذاك منك عيونا
وعرضت دينا قد عرفت بانه
من خير اديان البرية دينا
اما القرشيون فقد اجتمعوا في خيف بني كنانة – لما علموا باجتماع بني عبد المطلب وبني هاشم وقرارهم بحماية النبي محمد صلى الله عليه وسلم - لدراسة الموقف واخذ التحوطات له بعد ان زادت حيرتهم ونفدت حيلهم وتصميم بني عبد المطلب وبني هاشم هلى حمايته والقيام دونه مهما كانت الامور وتوصلوا الى امر خطير وحل غاشم ظالم وتحالفوا عليه وهذا الحلف او اقرار كتبوه في صحيفة وعلقوها في داخل الكعبة - كتبها لهم بغيض بن عامر بن هاشم . وقد دعى عليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فشلت يده . وينص هذا الحلف على ان ( لا يجالسون بني عبد المطلب وبني هاشم و لا يكلمونهم ولا يد خلون بيوتهم ولا يخالطونهم ولا يناكحونهم أي لا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم ولا يقبلون منهم صلحا ولا تاخذهم بهم رأفة حتى يسلموا اليهم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لقتله ).
فامر ابو طالب بني عبد المطلب وبني هاشم ان يدخلوا شعبه فدخلوه ولبثوا فيه ثلاث سنين حتى اشتد عليهم الخطب وخاصة ان قريش قطعوا عليهم كل معونة او تجارة حيث ان اية مواد تاتي الى مكة فيشتريها تجار قريش باغلى الاسعار ويحرمون بني عبد المطلب وبني هاشم منها فلا يتركون طعاما يدخل مكة الا واشتروه ومنعوه عنهم حتى قتلهم الجوع وحتى قيل ان نساءهم واطفالهم كانوا يضاغون جوعا في الشعب لذا عظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا وكان ابو طالب اذا اوى الناس لفراشهم للنوم ليلا امر رسول الله ان يضطجع في فراشه حتى يرى من اراد اغتياله فاذا نام الناس وخلدوا للنوم امر احد ابنائه او بني عمومته حمايته او المنام في فر اشه وينام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مكانه .
وفي ذلك يقول ابو طالب في لامية ابياتها اكثر من خمسين بيتا :
ولما رايت القوم لا ود بينهم
ولا قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا العداوة والاذى
وقد طاوعوا امر العدو المزايل
وصرت لهم نفسي بسمراء سمحة
وابيض عضب من تراث المقاول
واحضرت عند البيت رهطي واسرتي
وامسكت من اثوابه بالوصائل
اعوذ برب الناس من كل طاعن
علينا بسوء او ملح بباطل
الى ان يقول:
فو الله لولا ان اجيء بسبة
تجر على اشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة
من الدهر جدا غير قول التهازل
لقد علموا ان ابننا لا مكذب
لدينا ولا يعني بقول الاباطل
حدبت بنفسي دونه وحميته
ودافعت عنه يالذرى والكلاكل
وكان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مستمرا في دعوته الاسلامية رغم كل هذه الظروف وخاصة في موسم الحج حيث كانت القبائل تقبل الى مكة من كل حدب وصوب لاداء مناسك الحج . وقد قيض الله تعالى بعد هذه السنوات الثلاث العجاف خمسة رجال من قريش من بعد ما هالهم ما لحق ببني عبد المطلب و بني هاشم وهم :
هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي حيث كان ياتي بالطعام خفية بالليل الى بني هاشم وبني عبد المطلب والثاني هو زهير بن ابي امية المخزومي وامه عاتكة بنت عبد المطلب فهم اخواله وقد جاء اليه هشام بن عمرو وقال له : يازهير ايرضيك ان تاكل الطعام وتشرب الشراب واخوالك يتضورون جوعا ؟؟
فقا له : ويحك وما افعل وانا رجل واحد ؟؟ فاما والله لو كان معي رجل اخر لقمت بنقض الصحيفة.
فاجابه : انا يا زهير.
قال له : ابغنا ثالثا
فاشارعليه بابي البختري بن هشام
فقال له : ابغنا رابعا
فقال له : زمعة بن الاسود
فقال : ابغنا خامسا .
فاجابه : المطعم بن عدي .
لذا فقد هيء الله تعالى قلب هاشم بن عمرو من بني عامر بن لؤي ورقق قلبه في العمل على نقض الوثيقة وفك الحصار الظالم على بني عبد المطلب وبني هاشم . فمشى الى زهير وكلمه في فيه وتداولا الحديث مع الثلاثة الاخرين فاجتمع الخمسة عند الحجون وتعاهدوا على نقض الصحيفة وفك الحصار.
وقال زهير : غدا انا لها
فلما اصبح الصبح جاؤوا الى الكعبة وقريش طوافون بها ومحدقون من كل جانب جاء زهير وعليه حلة فطاف الكعبة ثم وقف ونادى باعلى صوته :
- يا اهل مكة انا ناكل الطعالم ونشرب الشراب وتلبس الثياب وبنو هاشم جياع وهلكى والله لا اقعد حتى تشق هذه الصحيفة
- فقال له ابو جهل: كذبت والله لا تشق.
- فقال زمعة : انت والله اكذب مارضينا كتابتها حين كتبت .
- وقال ابو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر عليه
- فقال المطعم بن عدي : وكذب من قال غير ذلك نبرأ الى الله منها ومما كتب فيها .
وايدهم القول هشام بن عمرو في نقض الصحيفة وتمزيقها
فقال ابو جهل: هذا امر قد قضي بليل تشاوروا فيه بغير هذا المكان
وكان الله سبحانه وتعالى قد ارسل على هذه الصحيفة حشرة الارضة او دابة الارض فاكلتها ولم تترك منها غير اسم الله . واخبرالله رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فاطلع عمه ابو طالب على الامر فاتى يمشي في جماعة من بني عبد المطلب الى المسجد وقريش مجتمعون فيه فحسب القرشيون ان بني عبد المطلب خرجوا من الشعب من شدة الجوع وجاؤوا ليعطوا الرسول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم الى قريش لتقتله ازاء فك الحصار ونقض الصحيفة.
فقال ابو طالب للقرشيين – حدث امر مهم لعله يكون صلحا بيننا وبينكم .
قال ذلك لينظر اهل مكة في الصحيفة فيجدونها ماكولة
وقال لهم ابو طالب ايضا : لاعطينكم امرا فيه نصف ان ابن اخي اخبرني – ولم يكذبني - ان الله عز وجل قد برء من هذه الصحيفة التي في ايديكم وانه محا كل اسم فيها – الاباسمك اللهم – فان كان ما قال حقا وصدقا فوالله لا نسلمه اليكم حتى نموت عن اخرنا وان كان ما قال لنا باطلا دفعناه اليكم لتقتلوه
فقالوا: رضينا
فلما فتحوا الصحيفة وجدوها كما اخبر ابو طالب
فقالوا ومنهم ابو جهل : هذا سحر جاء به صاحبكم
وهكذا انتهى الحصار ومزقت الصحيفة وما فيها من ظلم وخرج الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من الشعب وانتهى الحصار . وفي هذا يقول ابو طالب :
جزى الله رهطا بالحجون تتابعوا
على ملأ يهدي بحزم ويرشد
اعان عليها كل صقر كانه
اذا ما مشى في رفرف الدرع اجرد
قعودا لدى جنب الحجون كانهم
مقاولة بل هم اعز وامجد
عادت المياه الى مجاريها بعد فك الحصار وظل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يدعو الى الله الواحد الاحد فما انقضت اشهر الا ومرض ابو طالب واشتد مرضه وكان قد جاوز الثمانين من العمر. وشعر القرشيون ان المرض آخذه فتشاوروا بينهم واوفدوا وفدا الى ابي طالب وهوعلى فراش الموت ليحدثوه في امر ابن اخيه خشية ان تعييرهم العرب في تركه وتقول انهم تركوه حتى اذا مات عمه تناولوه فجاؤوا اليه وطلبوا منه ان يكف ابن اخيه عن آلهتهم وهم يدعونه والهه . فدعاه اليه وعرض عليه ماقاله القرشيون فقال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:
( ياعم اريدهم على كلمة واحدة سواء يقولونها تدين لهمم بها العرب وتؤدي لهم العجم الجزية وهو قول- لااله الا الله) والعجم نعني بها كل من تكلم غيرالعربية مهما كان او سكن فهو اعجمي. فلما سمعوا قوله فزع القوم وانفضوا من حول ابي طالب وهم ينفضون ثيابهم .
يتبع
فالح نصيف الحجية
الكيلاني
***********************************