الغزل الصوفي
الغزل الصوفي او العشق الالهي فن جديد في الغزل الشعري ظهر على ايدي علماء وشعراء التصوف كرد فعل لحالات من الفساد والفسق التي ظهرت في العصرالعباسي الاخير ويعتبر الحب الالهي حجر الزاوية في الرؤية الصوفية وهو الذى اخرج الكون من العدم والارادة فمحبة الحق تعالى للعبد ارادته لانعام مخصوص عليه وهي حالة في قلبه تمتاز بلطف العبارة وقد تحمله هذه الحالة على التعظيم لله تعالى وايثار رضاه وقلة الصبر عنه وللاهتياج اليه وعدم القرار من دونه مع وجود الا ستيناس بدوام ذكره له بقلبه لقد وردت كلمة الحب في القران الكريم في عدة مواضع مما يدل على انه عاطفة صافية من الله تعالى نحو عبده غرسها فيه واخرى صاعدة من العبد نحو ربه حالة متبادلة بين العبد وربه فالمحبة منه اليه اودع بذورها قلوب محبيه وان الروح فيض منه تعالى وهبة منه اليهم فالحب تعبير عن وفاء الروح لخالقها وليس جميع الارواح قادرة على الوفاء بالحب عن منة الله اليها لذا اصبح اهل المحبة مخصوصين بهذه النعمة اصطفاهم ربهم عن سائر خلقه وقد تصل درجة المحبة فيهم الى حد الوجد فتكون مكاشفات من الحق تعالى تثير الزفير والشهيق والبكاء والانين والصعقة والصيحة والصراخ ويكون ذلك اذا انقطعت الاسباب وخلص الذكر وحي القلب ورق وصفى وغرست فيه الموعظة والذكر فانبتت واورقت واثمرت وحل الذكر من المناجاة في محل قريب وخوطب فسمع الخطاب باذن واعية وقلب شاهد وسر طاهر فشاهد ماكان فيه ان التصوف بني على الحب الصادق العفيف فهو سمة بارزة للتصوف التزمه الصوفيون ايمانا بقدسيته حيث ورد كما اشرنا انفا في المصحف الشريف( قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )وفي احاديث الرسول الكريم على الله عليه وسلم ورد الحب بها كثيرا (اللهم اني اسالك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني الى حبك) والصوفية يعتبرون اعمالهم تقربهم الى محبه الله تعالى لذا اصبح الحب الصوفي حبا صادقا تتعلق الروح فيه بالحضرة الالهية ومنها ظهر تاثر الشعراء الصوفيين بشعرا ء الحب العذري وتمثلوا بالفاظهم ومواجيدهم وتغنوا بالذات الالهية وقد تبين بجلاء تام في شعر الشيخ الجيلاني قدس سره \
فواءد به شمس المحبه طالع
وليس لنجم العذل فيه مواقع
فالشعر الصوفي فيض من اله السموات والارضش على أوليائه بمعارف القرب والإيحاء ، إذ تجلى على قلوبهم بصفاته وأسمائه فأسفر لهم الحقائق بجميل آلائه ومخبآت نعمائه .. وفيوض أنواره وأسراره ..
والشعر الروحي .. درٌّ نضير ، يستاف الورد والعبير ، فيعطي للحياة رمزاً ، ومن الرقائق كنزاً ، ومن المواجيد رياضاً وحدائق غنّاء ، ومن العبارات غدراناً متدفّقة ، ومن الإشارات أساليب مشرقة ومن الحِكَم ثماراً وأزهاراً .. كروعة الكَلِم البديع في فصل الربيع ، فينسجُ من الأفكار ما يجري من تحتها الأنهار يرتشفها مُداماً ومنهَلاً عذباً للواردين ، مثلَ نسَمات الأسحار ، فتأتي اللطائف والأشواق بمذاقات قدسية عُليا تجول بطيب الأنفاس وروعة الأحوال في جنبات هذا الكون العظيم ...
ولا يوجد شيء ، من جوهر ولا عرض ، ولا صفة في هذا الوجود الحادث إلا وهو مستند إلى حقيقة إلهية من حيث نسبتُها إلى موجد الوجود القديم سبحانه وتعالى ، ولولا ذلك لما صحّ لها أن تظهر ؛ ومن ذلك ظاهرة الحب في هذه الدنيا .. فإنه على اختلاف مراتبه وتجلياته
و حقيقة الحب الإلهي انه أصل وجود الحب في العالم على اختلاف مراتبه وتجلياته واذا كانت النفوس قد تغيرت مع الزمن ، وقست القلوب ثم اختلطت المفاهيم ، وتعقدت الأمور ، وتسطحت الأشياء ، وأضحى الفكر بلا جدوى ، وأصبحت القيم لا معنى لها ، وتهمّشت المثاليات وتغير المعنى الحقيقي للحب فادى الى اضطراب في مفاهيمه فضاعت الموازين فلم يعد يدرك ما هو الحب الحقيقي ، وما هو الحب الوهمي وحب المصلحة والمنافع الآنية ، فتعثرت الحقائق في زحمة الحياة.ويعد الشيخ محي الدين ابن عربي اول بحث في هذا الحب عموماً ، والمحبةُ الإلهية خصوصاً ، فهو يقول:
(حمداً لرب العزّة وقد جعل الهوى حرَماً تحجّ إليه قلوبُ الأدباء ، وكعبةً تطوف بها أسرار ألباب الظرفاء ، فجعل الفراق أمرَّ كأس تذاق وجعل التلاقي عذبَ الجَنى ، والوصالَ طيّب المذاق .. تجلى اسمه الجميل سبحانه فاندهشت الألباب ، فغرقت في بحر حبّه وفتحَ من دونها الباب فدعاها الاشتياق بمنازح الأشواق ، لتتوجه إليه عشقاً، وتذوبَ فيه شوقاً ، فيشتدُّ أنينُها ، ويطولُ حنينها ، لتجرعَ كأسَ المدُام ولم تخشَ الفناء ومصارعَ الهلاك والفناء بل نادت يا جميل يا مِحسان .. يا من قال : " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان (يا من تيّمني بحبه ، وهيّمني بين بعده وقربه فليتني أتحقق .. أرنو لمشارف الحقيقة لتنعم العين والفؤاد ..)
وجعل الجمال اساسا لهذا الحب وما احسن ان يرى المحب حبيبه جميلا لذا وقع الهيام والعشق عند العارفين فأوْرَتْ نار الشوق عندهم والفناء عند المشاهدة لهذا العالم لأنه مرآةَ الحقيقة ..يقول :
فحبيبي مني ، وفيّ ، وعندي
فلمـاذا أقـول مـا بي وما بي
ان في أجواء الشعر الصوفي عواطف تقترب من تلك العوالم الشيقة الفيّاضة و إلهاماتها وليدة عاطفةٍ غيبية و إن معالم هذا الشعر الروحي الرمزي الرقيق هي وليدة معرفة ذوقية أيضاً ...
فالشعر الصوفي ليس وليد عاطفة دينية مجردة ، بل هو نتاج مراحل معرفية، وتجليات ذوقية بحتة ، مرّ بها الشاعر عبر تطورات معينة ، يلتقطها بقلمه الساحر العفوي التلقائي ، بَيْد أنه لا يصورها كما يحدث في المسائل الفكرية والنظريات الفلسفية ، والقواعد المنطقية وإنما يعبّر عما يختلج في نفسه ، ويضطرب في قلبه، وجوانحه من خلجاتٍ ومشاعر غير مألوفة ، إذ يصوغها بقالب فني مبهر نعم .. لمست فيه غلياناً يفور في أعماق ذاته ، حيث يرى في داخله ما لا يُرى .. بهدوء ونقاء رتيب عجيب ، ولسان حاله يموج ويهدر وموسيقا الصمت ، وقد أغمضت ، وعقلي في قلبي انصهرا .... وخيالٌ .. جاوز طاقته .. وامتدّ فأبصر ما استترا ..
.. وسرحتُ .. مع الأفلاك .. مع الأملاك .. أرى ما ليس يُرى .. سبحاتٌ .. فاقت شاعرها .. لم تُقصد .. بل كانت قدراً .. غيبوبة عشق في ملكوت جمال الله .. وما فطرا .. ( راجع مقالتي عبد القادرالجيلاني نموذج للشعرالصوفي )
وقد تطرّق الصوفيون إلى الحب ، فجعلوا منه النور الذي يُستضاء به ، والسر الذي يتكئ عليه ، والمشعل الذي يسير الصوفي على هداه ليؤكدواقاعدة اساسية هي ( أن الحب هو طريق الوصول إلى الله ) وهذا يعني أن غاية الحب القصوى هي الاتصال بالله ، مما يمهد الطريق للمعارف والإشراقات والفتوحات ، وتلازم الأقوال والأفعال مع بعضها ليكون الحب الإلهي قمة السلوك البشري الرفيع ، كالتوبة والإنابة والورع والزهد ، والتوكل والرضى .. وما إلى ذلك ، مما يدعو إلى التحرر من صرخة الجسد وطغيان الرغبات الحسية ، بالترفع إلى المعاني الراقية والمراتب الذوقية التي تنأى في كل الأحوال عن شؤون المعرفة العقلية ، حيث الذوقُ والكشفُ وميلُ القلب إلى الله وليس لسواه ، فيطيب عيشه فالحب الصوفي فناء مطلق ، يجعل من الحب والمحبوب كُلاً موحِّداً فالحب الروحي ، المثالي ، المجرد عن رغبة الجسد ، ونزوة الغريزة ، يجعل من صاحبه في حالة اندماج فتتألق النزعة الوجدانية الصافية في شعر الحب الصوفي كما يقول السهروردي :
لمعت نارهم وقد عسـعس
الليل وملّ الحادي وحار الدليل
فتأملتها وفكري من البيـن
علـيل ، ولحظ الغرام الدخيلُ
وفؤادي ذاك الفؤاد المعنّى
وغـرامي ذاك الغرام الدخيلُ
ثم مالوا إلى الملام فقالوا :
خُلَّبٌ مـا رأيـت أم تـخييلُ
فالشاعر الصوفي مرهف جداً ، يستمد عناصر وحيه وإلهامه من عالمه الذاتي ، عالم المثاليات اللامتناهية والإحساس العميق بالجمال في أسمى معانيه وتعبير عن الجمال الذي يتأثر به الإنسان .. والجمال عند الصوفي هو جمال معنوي.
الحب الصوفي بتصوره أكثر من واقعه ، لأن الحب في الحقيقة هو وليد التصورات المجنحة ، وهو بفضل هذه الأحلام يستمر ، ولكل قلب أسراره .. فلا ينضب معينه ، فالحب الصوفي يمثل ينبوعا دائم الجريان فياض الألوان حافل بشتى الأحاسيس الإيجابية الهامسة ، والحوافز الخفية نحو ثالوث الحق والخير والجمال ينهل من الوجدان لذلك أبدع الغزل الصوفي فأمتع فأضغى على الأيام روحانية السماء ، كما فعلت رابعة العدوية إذ جعلت من الحب غاية مثالية لا ينشد لرغبة أو لرهبة بل للحب ذاته بما فيه من نقاء وصفاء .. وإدراك للحقيقة التي تفضي إلى الفناء والمطلق في الذات الإلهية والوحدة المطلقة
وقيل ان الحب الصوفي وحي يوحيه المولى سبحانه لعباده الذين أراد إسعادهم وقضى في الأزل إكرامهم لأنه موهبة توهب ، فتأتي السعادة وتحظى بالحسنى وزيادة .. وربما يتراءى للمتصوفين رؤى خاصة بهم .. يرونها رأي العين ربما قد يمسك بعضهم عن الإفصاح بها لأسباب عديدة كما يقول ابن الفارض :
يا رُبّ جوهر علم لو أبوح به
لقـيل لي أنت ممن يعبد الوثنا.
فابن الفارض يعد أمير الشعر الصوفي لاحظ قوله :
وما زلت مذ نيطت علي تمائمي
أبـايع سلـطان الهوى وأبايع
وإني مذ شاهدت فيّ جمــاله
بلـوعة أشـواق المحبة والع
أُراني بوادي الحب أرعى جماله
ألا في سبيل الحب ما أنا صانع
صبرت على أهواله صبر شاكر
وما أنا في شيء سوى البعد جازع
كل أشعاره هكذا مرشحة بمفردات الحب والجمال والغزل والهيمان .
على أيديه اشتهر شعر التصوف وقد كون تياراً فريداً في الشعر الإلهي
ومن علائم الحب الالهي الانس وهو اقرار المشاهدة لجمال الحضرة الالهية في القلب وهذا جما ل الجلال وفيه ينجلي الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس سره وكانه في حضرة التقريب مستاءنسا بوجوده مع الحق تعالى وقد تحققت عبوديته له ووصل الى المقام الاعلى وهنا ليس للصبر مع العبد اختيار ولا ارادة بل يصل الى درجة الفناء فيه وقد اتخذ الفناء في شعر الجيلا ني قدس سره مايفصح عن كيفية هذا وتمكينه في هذا الحب منه من افناء ذاته واتحادهما في موضوعاتهما بتشويق ازلي في توكيد الذات واثباتها يقول من الطويل :
تمكن مني الحب فامتحق الحشـــــــــــا
واتلفني الوجد الشديد المنـــازع
وقد فتكت روحي تقارعه الهـــــــــوى
وافنيت في نجو ى بما انا فازع
تلذ لي الايام اذ انت مسقمــــــــــــــــي
وان تمتحني فهي عندي صنايع
ان ذكر الله تعالى والدوام عليه في ثنايا هذا الحب العظيم وتوكيد الاتصال الالهي الذي يشعر به اتجاه من يحب ليشير الى المنزلة العظيمة التي تحاول التقرب منها دائما ومن هنا يتبين ان الحب الالهي سر ان افصح عنه عوقب صاحبه بالموت واتهم بالكفر والعصيان وعلى هذا فان الحب الالهي عند الجيلاني قدس سره قد اخذ منحى من قبله من شعر اء الصوفية في التكتم والسر وعدم البوح وتحمل مايجده من صبابة ولوعة وشوق ووجد ومن اشهر شعراء هذا الفن من الغزل ابن عربي و ابن الفارض و الحلاج و رابعة العدوية و الشيخ عبد القادرالجيلاني .
******************************************