الجزء الثاني
الـمـعـــا رضــــا ت في الشعر العربي
الفصل الاول
المـعـــارضـــــات الشـــعرية
المعارضات الشعريةهي قصائد شعرية قالها الشعراء ثم عارضها شعراء اخرون والمعارضة تعني القول على نفس النسق او مثله من حيث الوزن او الموسيقى والقافية والروي .
وفي اللغة : عرض\ ظهر، وعارضه\سار حياله، أو أتى بمثل ما أتى به. وعارض الكتاب بالكتاب اي قابله. وقد جاء في معجم لسان العرب أن المعارضة هي المحاذاة.وجاء في مختار الصحاح للرازي عارضه في المسير أي سار حياله وعارضه بمثل ما صنع أي اتى اليه بمثل ما اتى به .
و(اصطلاحا) هي تلك القصائد التي قالها الشعراء فقال مثلها غيرهم معارضة لقصائدهم. أي يقول الشاعر قصيدة في موضوع ما، فيأتي شاعر آخر، فينظم قصيدة أخرى على غرارها، محاكياً القصيدة الأولى في وزنها وقافيتها وموضوعها مع اظهار القدرة على التفوق عليها من حيث اللغة والاسلوب والمعنى والاخيلة الشعرية وانتقاء الصور البلاغية والشعرية وما اليها من امور التفوق الشعري . وموضوعه التزاماً تاماً يحرص فيه الشاعر على مضاهاة الشاعر المعَارَض في شعره إن لم يتفوق عليه ولا يشترط الوقت الزمني للقصائد المعارضة وقد يلجأ الشاعر إلى معارضة قصيدته لقصيدة الشاعر الاخر عندما يرى في شعر غيره من الشعراء ما يمتاز به من فصاحة، وروعة صياغة، أو صور شعرية معبرة ، وغيرها من أمور تثير في نفسه العجب او ياتي بمثلها في اقل تقدير اي يماثلها . وهذا يعني ان القصائد التي عورضت شعريا هي افضل القصائد واشهرها في الشعرالعربي . لذا تستحق البحث عنها واظهارها . وهذا ما نبني عليه في هذا البحث باذن الله .
وتقتضي المعارضة وجود حدث فني او نموذج شعري ماثل أمام المعارض ليقتدي به، ويحاكيه او يحاول تجاوزه لغويا وبلاغيا او الاتيان بافضل منه على نفس النسق أي ضمن القافية الواحدة والروي الواحد والبحر الواحد موسيقاهما واحدة . ولا يشترط الزمن او الوقت في المعارضات فقد عورضت قصائد بعد الف سنة او اكثر وعورض بعضها خلال ايام من نظم القصيدة التي تم معارضتها .
والمعارضات الشعرية هي سمة العصر الذي قيلت فيه فهي ظاهرة إبداعية من نوع فريد خارجة عن التقليد . فالشاعر قد يصوغ موضوعها صياغة جديدة بما وهبه الله تعالى من مزايا والهاما شعريا بعيدا عن التقليد ويثبت ذاته في معارضته . وربما يقال ان الشاعر قد يتكأ على القصيدة التي يعارضها ويستقي منها منهجيته في المعارضة .
واقول انما هي نوع من المباريات الشعرية التي قد تجري بين الشعراء، مع العلم انها تختلف عن التقليد فهي نوع من إثبات الذات والمقدرة على الإبداع الشعري وتبدأ بنظم شاعر معين قصيدة رائعة فيأتي شاعر آخر يعجب بها فيعارضها بقصيدة جديدة بنفس وزن هذه القصيدة وموسيقاها الشعرية وبنفس قافيتها ورويها وذلك لعدة اسباب منها الإبداع داخل هذا النوع من الشعر اذ ان هذا الشاعر أعجبه ذلك مثلا فرغب ان يكتب مثل هذه القصيدة التي اعجبته او جمال معاني هذه القصيدة وأفكارها حيث ان الشاعر ربما يتبنى وجهة نظر الشاعرقبله او الذي عارضه فتكون القصيدة وهذا ما بحثناه لكنه ربما إمعانًا منه في التحدي يلزم نفسه أن يبدع في نفس القالب الشعري الذي التزمه الشاعر الأول، فيلتزم بنفس الوزن والبحر والقافية او الموسيقى الشعرية كما يسمونها حديثا.
تختلف قصائد المعا رضات عن النقائض حيث ان النقائض ظهرت كفن جديد في الشعر العربي وربما يتعبره اخرون امتدادا لشعر الهجاء في الجاهلية وصدر الاسلام الا انه في الواقع اتخذ طابعا جديدا في العصر الاموي فالنقائض قصائد في منتهى القوة والبلاغة والعاطفة الشعرية تمتاز بطولها وقوتها واسلوبها الخاص .قد قالها فحول شعراء العربية في العصر الاموي في الرد على الخصم فيها او الرد على قصيدة الخصم بحيث ينقضون ما فيها من مدح ويحولونه الى ذ م و من فخر الى هجاء ويظهر كل منهم مثالب الاخر ومعايبه وقومه وينسبون الفخر والمدح الى انفسهم او الى قومهم ومن اليهم
راجع كتابي ( الموجز في الشعرالعربي ) المجلد الاول طبع دار دجلة ناشرون وموزعون عمان – الاردن \ 2017
وان النقائض زادت من حدة الخلاف وشدة النزاع الحزبي والقبلي بين الاطراف المتنازعة حيث ذهب الشعراء في البحث عن مثالب بعضهم البعض ومثالب اقوامهم واللهاث وراء معرفة كل مثلبة في الشاعر او في عائلته او قومه وعشيرته في الماضي او في الحاضر الا انها –اي النقائض - رسمت صورة لحياة الشعراء واحداث عصرهم فكانت مصدرا مهما من مصادر معرفة تاريخ العصر الجاهلي فهي نبش في التاريخ وراء الاحداث وما تمخض عنها من نوازع وامور تهم هذا الطرف او ذاك انها البحث في التاريخ للقبائل العربية ومعرفة ايامها ومفاخرها ومثالبها للفخر بها او الطعن فيها.
اما المعارضات الشعرية فيرجع تاريخ ابتداء المعارضات الى العصرالجاهلي ايضا فمن المعلوم ان الشعرالجاهلي هو اقدم شعر عربي وصل الينا وقراناه ودرسناه واتخذناه مثلا نحتذي به وننظم على منواله ولم يكن شعر قبله .ولما كانت المعارضات قصائد شعرية رحنا نبحث عن اول قصائد نعتبرها بداية لشعرالمعارضات وقد وجد مؤرخو الادب العربي ان اول قصيدة اعتبروها من فن المعارضات هي قصيدة للشاعر امرئ القيس الكندي واول من احتكم اليه من الشعراء هي زوجة امرئ القيس ( ام جندب ) حيث كانت شاعرة في الجاهلية وقد احتكم اليها زوجها امرؤ القيس والشاعر الاخر علقمة بن عبده الملقب ب ( علقمة الفحل ) اذ طلبت من كل منهما ان يقول شعرا امامها في وصف فرسه لتحكم فيما يقولان فقال امرؤ القيس قصيدته ومطلعها :
خليليَّ مُرّا بي على أمّ جندب
لنقضي لباناتِ الفؤادِ المعذّبِ
وذلك فيما ابداعها و إلى فترة صدر الاسلام أثر شعر المعارضات في التراث الأدبي . فقد ظهر شعر المعارضات بين الشعراء القداما وبين الشعراءالمحدثين فيختار شاعر من اي عصر او محدث قصيدة لشاعر قديم فيبني على منوالها او يعارضها فيظهر كل شاعر بشعره على الآخر . مما كان له آثار عظيمة في التراث الأدبي وقد لاحظنا ثلاث مراحل مرت بها المعارضات :
المرحلة الاولى : مرحلة التقليد وهو ما يحدث اثناء انشاء القصيدة المعارضة والانطلاق إلى سياق الإبداع، والابتكار، فقد يفوق بعض الشعراء المعارِضين فيما نظموه مَن عارضوهم من الشعراء، من حيث الأسلوب، والدلالات، والمضمون. إذكاء روح التنافس بين الشعراء النابهين وبيان قدراتهم في الشعر ، مما جعل رياض الأدب خصبة ليشيدّوا بذلك صرحاً أدبياً عظيماً يصور المعنى الحقيقي لمقولة ( الشعر ديوان العرب ). المحافظة على التراث الشعري القديم مثل ( قصيدة البردة ) لكعب بن زهير بن ابي سلمى في مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
*******************
* كعب بن زهير بن (ابي سلمى) :
هو الشاعر االمخضرم بين الجاهلية والاسلام المشهور ربيعة بن رياح بن العوام بن قُرط بن الحارث بن مازن بن خلاوة بن ثعلبة بن ثور بن هرمة بن عثمان من مزينة.
أمه امرأة من بني عبد الله بن غطفان يقال لها كبشة بنت عمار بن عدي بن سحيم .
تلقن كعب الشعر عن أبيه حيث كان ابوه شاعرا من فحول الشعراء الجاهليين فكان زهير يعلم ولديه كعب وبجير الشعر وكيف يقولانه ويحفظانه وقيل عن كعب أنه كان يخرج به أبوه إلى الفلاة فيلقي عليه بيتاً أو شطراً ويطلب منه اجازته تمريناُ حتى تدرب وقال الشعر بطلاقة . وكعب بن زهير شاعر مخضرم فقد قال الشعر في الجاهلية والاسلام والمعلوم ان زهير بن ابي سلمى كان ينظم الشعر منذ حداثته فردعه أبوه مخافة أن يأتي بالضعيف فيشوّه مجد الأسرة وما زال يهذّب لسانه ويجهّز شاعريته برواية الشعر حتى استقام له النظم.
والمعروف ان زهير بن ابي سلمى المزني كان شاعرا وابوه شاعرا وزوج امه شاعرا وخاله شاعرا وكذلك ولداه كعب وبجير وولد كعب وحفيده كلهم شعراء فحول في قوله لهم منزلة راقية ومكانة عالية فيه . فقال قصيدته في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقصيدته هذه تسمى البردة لان النبي صلى الله عليه وسلم البسه بردته الشريفة وهم ينشدها ومطلعها:
بـانَتْ سُـعادُ فَـقَلْبي اليَوْمَ مَتْبول
مُـتَـيَّمٌ إثْـرَها لـم يُـفَدْ مَـكْبولُ
وقد نالت هذه القصيدة إعجاب الشعراء كثيراً فأكثروا من معارضتها في اغلب العصور الادبية . او القول على نسقها قديما وحديثا .
المرحلة الثانية : تجاوز مرحلة التقليد، والانطلاق إلى سياق الإبداع، والابتكار وفيها فاق بعض المعارِضين فيما نظموه على مَن عارضوهم من الشعراء، من حيث الأساليب والمعاني والصور الشعرية وحتى المضمون. إوذكاء روح التنافس بين الشعراء النابهين مما جعل ساحات الأدب خصبة بالفرائد الشعرية ، والنوادرالادبية مثل ذلك معارضة صفي الدين الحلي للمتنبي .
فقد قال الشاعرالمتنبي في مدح (علي بن منصور الحاجب ) :
بأبي الشموس الجانحات غوارباً
اللابســـــات من الحرير جلاببــــاً
فعارضه الشاعر صفي الدين الحلي في قصيدته التي مدح فيها السلطان ( الناصر بن قلاوون ) :
أسبلن من فوق النُهــــــود ذوائباً
فجعلن حبات القلـــــوب ذوائبــــاً
الثالثة : ما أضافه شعر المعارضات من صفحاتٍ ناصعة إلى ديوان الشعرالعربي كانت كلها تصب في بحر الأدب العربي فأثرته وزادته ائتلاقا وتفوقا وتكمن في معارضة المحدثين لقصائد الاقدمين والنسج على منوالها وضمن موسيقاها . ومثال ذلك معاضة قصيدة الشاعر البحتري في وصف ايوان كسرى في المدائن يقول في مطلعها :
صنت نفسي عما يدنس نفسي
وترفعت عن جـــــدا كل جِبس
وقد عارضها الشاعرالكبير احمد شوقي اميرالشعراء و التي وصف فيها معالم العرب والمسلمين في الاندلس اثناء نفيه من قبل الاستعمار الاتكليزي لمصر الى الاندلس من قبل الانكليز الذين احتلوا مصر بعد خروج نابليــون منها التي مطلعها :
اخـــــتلاف النــــــهار والـــــليل ينسي
اذكــــــرا لـــي الصبا وأيـــــام أنســـــي
***********************