( جمالية القصيدة المعاصرة )
د. فالح نصيف الكيلاني
.
الحالة الجمالية التي اوجدها المجتمع الانساني والتي تعتبر بحد ذاتها متعة جمالية تهدف لايجاد امور كثيرة تعتبر كأدوات فنية عالية الجودة ومتجددة وباساليب جمالية اشبه بتجليات نفسية في جوهر الفكر والرسالة الادبية التي تعد. لذا فإن الجوهر الموجود في جسدية او بنية الفن عامة وخاصة في الشعر والذي يعتبر جزءا من الفن له قدرة استثنائية على التلائم مع الجمال والاندماج به وهذا الجوهر يعمل بطريقة سحرية عجيبة يشد المتلقي شدا وبطريقة طردية حيث تكون وظيفته تقديم المتعة النفسية للشاعر والمتلقي في نفس الوقت وهذه المتعة تعتبر لدى الاخرين هي المنفعة الانسانية المنمشودة في هذا المجال . وعليه فان الشعر يمكنه من امتلاك ما يراه حقيقة او وهما في التعبير الادبي والنفسي ، ويزاوج بينهما في خفاء ا و تجلٍّ واضح ويكون الكشف عن الجمال عبر هذا التبادل والتزاوج والتعاور بحيث يشف عنه او يكشف عن كل منهما محاولا اخفاء الآخر او التداخل فيه، وهذا هو سر المتعة في الشعر. فاذا كان الشعر ترنيمة غنائية صادقة قد تولدت من الشعور المبدع، فإن هذه القصيدة او تلك ناشئة عما في نفسية الشاعر وتعبر عما في خوالجه . فهي تمثل صورة من صور الاستقرار النفسي الذي يحسه او يشعره بجماليته . اقول:
أ نْهــــا رُ نـــــورٍ كالنهـــار تـوهّجَــتْ
تَســــمو نَضاراتٍ وَتـــزْهو بــدائـــــعُ
.
في كُـــــلّ نَبْــــعٍ لِلنّفــــوسِ نَفائــــِسٌ
سَتُـنيــرُ قلبـــــاً كالِـــــوُرودِ مُطـــاوِعُ
.
وَعَلى غُصُنِ الاشْـجارِ تَشْــدو بَلابِــلُ
لَحْنــــاً. تُـُـــداوي للفـــؤاد مَـواجـِــــــعُ
.
وَغُصونُ وَرْدِ كَ في شِغافِ قُلوبِنـــا
كَرَحيقِ عـِطْــرٍ للِنّفــوسِ مَتابِــــــعُ
.
هذا الشّذى الفَــوّاحُ يَزْهـــو أريجُــــهُ
عِبْقــــاً يَفـــوحُ فَـذائِعــاتِ ضَوائِـــــعُ
.
مَنْ غاصَ في قـَعْــرِ البِحــــارِ تَعَلّـقَــتْ
عَينـــاهُ في بَحْــرَ الرّجـــــاءِ تُطالِـــــعُ
.
أيقَـنْــتُ ( أن اللــــهَ بـالِـــــغُ أمْـــرِهِ)
وَالحَـــقّ يَسْـــتَهْدي النّفوسَ قــَوانِــــعُ
.
اذْ أشْــرَقَ النّــــــورُ العَظيــــمُ صَباحهُ
فَوميضُ بـَــرْقٍ في الغُــمامَــةِ لامِــــعُ
فالمسيرة الشعرية في مواجهة الحياة لم تصل بعد إلى لحظة انتصار بل هي على الأغلب لا زالت تمثل لحظة انحسار قد تعيش بالانبعاث و ربما كان الشاعر يدرك بحساسية مرهفة أنه يواجه حياة لا تكشف عن وجهها مرة واحدة فوظيفة الشعر في الانتصار الافضل هي مرحلة دائمة في سبيل الوصول للغرض المنشود لذلك فهي تمثل حالة الغليان الداخلي في أعماق الشاعر ونفسيته دائما حتى لو ظهرت عليه ملامح السكينة وعلى بعض قصائده مسحة الشعر الوجداني .
فالشعر يثبت قدراته الأدائية في استكشاف حال الإنسان ويربط ايحا ئاته بها ربطاً شمولياً ، بحيث لا يتمكن - في الاغلب – من عزل نفسه عن المكان والزمان المقال فيه وربما يكون شموليا فيبقى خالدا وهذا سر من اسرار جمالية الشعر فقد يرى مسرة الانسان وفرحته وانسياقه نحو التفاؤل سرا دائما في النفس الانسانية وقد يرى أن عذاب او تعاسة إنسان في موقع معين هو رمز عذاب للانسانية . لذا فإن حالة الموت لدى الشاعر تغدو موتاً وحالة انسانية وليست شخصية بل معاناة ومعضلة تكتنف الحياة في كل مكان، لا حياة شخص بعينه.
ومثل هذا التوجه الشمولي هو الذي يمس أعمق أعماق النفس البشرية منطلقة من الخاص إلى العام من دائرة فقدان ضيقة بموت واحد من ملايين البشر إلى المصير الذي ينتظر هذه الملايين كلها ولهذا فأن الشعر يعتبر من أهم أركان الفنون التي تهدف الى خلاص البشرية واستكشاف حالها ومآلها وارتقائها إلى مواقع جديدة خارج دائرة الالم والعذاب او المسكنة بما يمتلكه هذا الفن العظيم من رؤية ورؤيا ، وقوى حدسية تنبئية واسعة نتيجة المعاناة التي تبعث فيه قوة التشبث والامل من داخل المعاناة النفسية وليس فوقها أو خارجها.
ان معظم علماء فلسفة الجمال يميلون إلى القول بأن عمل الفنان هو وحده الذي يسمح لنا بفهم الإنسان الحقيقي فنفس الشاعر المتلهفة على حب المصير الإنساني بإحساساتها الإنسانية حتما يترجمها إلى جمالية طاغية مثقلة، حانية على الناس والأشياء والعالم اجمعه وعليه استطيع ان اقول ان الشاعر يستكشف في الطبيعة ما لا تراه عين الإنسان العادية وهو في رؤيته هذه يفجر الضوء لينير ظلمة الحقيقة في النفس وينزع عنها كل أقنعتها القاتمة وهذا الشاعر قد يضع نفسه في مواجهة نفوس إنسانية مختلفة ربما يكون بعضها متعبة وبعضها معذَّ بة والاخرى متالقة نحو السمو والارتقاء .
لاحظ الشاعر نزار قباني يقول:
أصبح المنفی صديقي الغاليا
يأتي إلی المقهی معي
يقرأ جرايده معي
ويعدُ وجبات الطعام معي
ويقيس بدلاتي… و قمصاني
ويلبس نصف أحذيتي معي
يحبُ آلاف النساء معي
و يملُّ من کل النساء معي
وينام ملء جفونه
لذا فالشاعر ليس مجرد إنسان يحيا لذاته ويعمل من أجل إشباع رغابته وحدسه الشعري بل هو إنسان ذو رسالة معينة ويشعر او يحس في قرارة نفسه أنه ينطق باسم قوة عليا قاهرة قد تعلو على شخصيته وتنفعل او تتفاعل معها فتلهمه افضل ما عنده من ابداع ولعل هذا هو السبب الذي يجعل الكثير من الشعراء يشعرون بأن لهم حياة أخرى تتعدى وجودهم الزماني و الذاتي وهذه الحالة قد تصدق بقوة ان الجمال الذي لا يقف عند حد نزع الكره والبغضاء واستئصال كل ما يشوه جمال وجه البشرية الجميل و إنه لينهض بالنفوس ويدفعها نحو حياتها واستقرارها .
فالجمال الشعري يقدم او يثبت صلات لكل ما هو موجود من امور ربما تراها عين الشاعر وحده، فيكون شعره صوت الحياة الصافية وسرها، بحيث تكون لها القدرة على التقاط او بعث اهتزازاته الكامنة في اعماقه وهذه الاهتزازات انما هي رعشة لخفقات قلبية او نفسية تصل إلى مسامع متلهفة لها لتصل الى جوهر الحياة فيكون الشاعر قد اشتري حريته الأبدية وما تسمو اليه نفسه الابية من قيم عليا طالما ظل يمني نفسه في الوصول اليها فيفرغ شحناته الشعرية المنبثقة من نزعات نفسه فيها . لاحظ قول الشاعرة ناهدة الحلبي تقول:
يا لذَّةَ الشَّهْدِ المُراقِ لِمؤنِسِ
لو مَرَّ نَشْوانًا يَصُبُّ وَيَحْتَسي
تَتَثاءَبُ اللَّيْلاتُ حينَ أَجيئُها
كَالزَّنْبَقِ المُلْتفِّ سِحْرُ تَمَيُّسِ
إنْ دَوَّنَ التأريخُ سيرَةَ عاشقٍ
فَهَسيسُ خَطْوِ العشقِ لمْ يَتَفَهْرَسِ
حاذِرْ إذا أحْبَبْتَ نَفْثةَ حاســـــدٍ
إن دُقَّ بابُ القلــــبِ ذاتَ تَلَبُّسِ!
فإذا تَشَهّى الياسَــــــمينُ قَرَنْفُلًا
يَغْفو بِجَفنِ الخِــــلِّ عِطرَ اللُّوْتَسِ
ونستنتج من هذ ا كله حقيقة واحدة هي ان الشعر في جوهره خبرة انسانية من نوع معين بل هي خبرة جمالية عالية الهمة ولا يمكن فهم هذه الحقيقة العظيمة الا من خلال فهم اسس طبيعة الخبرة الجمالية ومساراتها وطموح نفسية الشاعر للوصول اليها والالتصاق بها بحيث تبقى متعانقة مع نتاجه الشعري وتكون جزءا من كل معاناته وما يعتمل في نفسه فيولد شعرا جميلا وفنا ابداعيا خالصا .
اميرالبيــــــان العربي
د: فالح نصيف الحجية الكيلاني
العراق - ديالى - بلـــــدروز
*************************************************