(الموسيقى الشعرية في القصيدة المعاصرة )
بقلم : فالح الكيـــــــــلاني
وجد الشاعر العربي نفسه قديما وحديثا خاضعا للقيود الشعرية ابتداءا من البيت الشعري الواحد و سياقه الهندسي وانتقاء البحر الموسيقي بنغميته المعينة فالشاعر الحديث او المعاصر دائما يسعى إلى بناء وايجاد موسيقى شعرية جديدة تتفاعل من التطور الزمني من دون ان تهدم الأصول الموسيقية الموروثة، بل كان غرض الشاعر من ذلك أن يتحرر من بعض القيود الشعرية و بالقدر الذي يتيح له فسحة من الحرية و بما يسعفه في التعبير عن عواطفه و أحاسيسه في تخيلات شعرية في اطار الفكرالناضج . واماله واحاسيسه . وما تشخص اليه نفسه ويأمل ان يحصل على قدر معين من هذه الحرية التي تمتع بها و قد أتاح له أن يطوع تلك الحالة الى ما يشبه القوانين وأن يطورها ليضيفها إلى الخصائص الجمالية للبحور الشعرية العربية التقليدية، واضافة امور وخصائص جمالية أخرى تستمد أصولها من التطور الذي أصاب او يصيب مستقبلا المضامين الشعرية نفسها. حيث سيحقق تطورات في الاطار الموسيقي للقصيدة الشعرية .
لذا نلاحظ بعض الشعراء بدأ بالثورة على القيود الشعرية المتوارثة واولها تجاوز نظام الشطر والعجز في البيت الواحد وبهذا خلق شعرا حديثا او معاصرا باشكال جديدة وهيكلية غير الهيكلية المورثة وتم استبدال نظام الشطر الشعري الى السطر الشعري و قد يطول او يقصر هذا السطر بحسب ما يتضمن من نسق شعوري أوفكري. أي تحول بادئ ذي بدء من شعر البحور الشعرية في البيت الشعري الى شعر التفعلية في الشعر الحر الجديد بالتزام السطرالشعري و طول هذا السطر قد يتراوح ما بين تفعيلة واحدة الى تسع تفعيلات وهو اطول نفس فيها .
ا ن التفعيلات في الشعر العربي والتي تمثل موسيقى الشعر العربي فقد كانت اعدادها وانواعها تختلف من بحر الى اخر وتخرج من دوائر عروضية متقاربة او مختلفة عن بعضها في ستة عشر بحرا كما اثبتها الفراهيدي البصري رحمه الله وقد ظل الشعراء ينظمون فيها قصائدهم طوال كل العصور الماضية وحتى العصر الحديث ولا يزال كل الشعراء من التزم الشعر العمودي او التقليدي ينظمون في هذه البحور . بينما التزم شعرا ء الشعر الحر او شعراء شعر التفعلية بسبعة بحور من البحور الفراهيدية وهذه البحور التي تفعيلتها حرة اصلية غير مختلفة بنغمية واحدة متسقة و هي:
الوافر : تفاعليه (مفاعلتن – مفاعلتن – مفاعلتن )
الكامل : وتفاعيله ( متفاعلن – متفاعلن – متفاعلن )
الهزج: وتفاعليه ( مفاعلين – مفاعلين –مفاعيلن )
الرجز : وتفاعيله ( مستفعلن – مستفعلن – مستفعلن )
الرمل : وتفاعيله ( فاعلاتن – فاعلاتن – فاعلاتن )
المتقارب: وتفاعليه ( فعولن – فعولن - فعولن )
والمتدارك: تفاعيله ( فاعلن – فاعلن – فاعلن )
لكن الفارق بين استخدامات شاعر العمود وشاعر التفعلية ان الاول يلتزم بالتفاعيل كاملة في شطر البيت وعجزه او مجزوئها – أي انقاص تفعلية واحدة من كل من الشطر والعجز أي تكون الموسيقى الشعرية في الصدر والعجز متساوية النغمات ومتناسقة بينما شاعر التفعلية لايلتزم بذلك فله الحرية المطلقة في النظم بتفعلية واحدة او عدة تفعيلات في السطر الشعري وهو ما يماثل البيت الشعري في الشعر التقليدي او العمودي وهذا ما يمكن الشاعر الحديث شاعر التفعيلة ان يستخرج من البحر الواحد اكثر من نغم موسيقي من خلال الخلط بين البحور في داخل القصيدة الواحدة فتاتي الموسيقى الشعرية بانغام عديدة تتناسق فيما بينها وفقا لقابلية الشاعر الشعرية واللغوية وتمكنه من التمازج بين الحروف والالفاظ وربما يكتفي الشاعر بنغم واحد أي ان نظام التفعيلة الشعرية اكثر طواعية اومرونة من قصيدة العمود .
واؤكد ان البحور الشعرية القديمة ( الفراهيدية ) تتوفر فيها انغام موسيقية وا سعة فيما لو استغلت افضل استغلال من قبل شعراء العربية ككل منها تناغم الاضرب وتنويعها وتلوين النغم الموسيقي بحيث يعمد الشاعر الى توظيف تفعيلات معينة تعود لدائرة معينة او ضمن الدائرة العروضية الواحدة دون الاكتراث بالقافية وربما دعى الامر الى ان هذا ا لاندماج بين البحور المتشابهة مثلا تفعيلات الرجز ( مستفعلن\ مستفعلن \مستفعلن ) وتفعيلات السريع ( مستفعلن \ مستفعلن \ مفعولات) المتقاربة جدا . الا ان هذه الامور بحاجة الى دراسة من قبل ذوي الاختصاص ومن الشعراء والنقاد على حد سواء ووضع الصيغ الكفيلة بانجاحها وتكييفها بافضل ما تكون وبهذا نقدم تطورا جديد ا للغة العربية وادابها وللشعر وللشعراء وايجاد صيغ لنغمية الموسيقى الشعرية . وقد سبق ان وجد مثل هذه الامور في الشعر العمودي في مسألة الخبب او الخبن اوالزحاف وهي من امراض الوزن اذ اصبح وجودها في حشو البيت الشعري مقبولا لكثرتها في الشعر الحديث ومستساغا لدى اغلب الشعراء والمتلقين وبهذا يكون الشاعر قد حصل على اكثر من ايقاع نغمي جديد جراء استعمالهما او استعمال أي منهما .فامكانية الشاعر ومقدرته الشعرية اراها تمثل بلاغة الشاعر اللغوية ونغمية قصيدته وقوة هذه النغمية في القصيدة وفقا للمساحة المتاحة له ضمن البحور الشعرية في قصيده ككل او البحرالواحد ضمن القصيدة الواحدة وبكفاءة عالية . فالشاعر الملهم والمقتدر هو من يستطيع التنسيق الجميل والرائع في قصيدته وما تحتاجه من فن عال باقتدار والهام بحبث تكون قصيدته اقرب الى كونها قطعة موسيقية بنغمية عالية . لاحظ هذه الابيات من الهزج اقول فيها :
صَباحَ الخَيْرِ ِ بَلْ أكْبر ْ الى الحُبِّ الذي يَكْبَر ْ
صَباح َ الوَرْد ِبَل أكْثرْ منَ الشّوق ِالذي أ بْحَرْ
الى الحرف ِالذي يَهوى كَلامَ الرّوح ِ كالجُوهَر ْ
فَأنتَ الوَرْدُ والرَيْحا نُ وَالغُصْنُ الّذي أزْهَر ْ
وأنْتَ الشّوقُ والأنْغا مُ وَ الدّنيـا التّي تَكْبَـرْ
وأنْتَ الماء ُ وَالخَضْرا ء تَزْهو وَالرَّجا أخْضَرْ
فهذي النّفْسُ تَـهْواكُم فُؤادي بالهَوى يَسْعَر ْ
وَقَلبي بالوَفــا يَسْعى وَ با لأ شْواق ِ اذ ْ يَزْخَر ْ
لَكم ِ في القَلب ِ إيْناسٌ وَنَسْماتُ الهَوى عَنْـبَر ْ
وَعِطْرُ الحرف ِ ِ َيزجيني لَأ نْ أحْيـا وَ لا أ قْـدِ ر ْ
لَعَلَ الشوق يَسْقيني لَذيذَ الشّهْد ِ إنْ أ ز ْهَـر ْ
فَأجْني فُســحَة العُـمْر ِ بِوَصَل ِ النّفْس ِ أو أقْبَـر ْ
وَ غيْضَ الماءُ مَجْراها وَ مَرْساها فَـلا تـَنْهَر ْ
وفي شعر التفعيلة تظهر دفقة واسعة او ضعيفة في حركة الافكار والمشاعر والاخيلة بحسب امكانية الشاعر وقدرته الشعرية في ذات الوقت بحيث تتجاوز ما رسم لها في البيت الشعري العمودي وتتجاوزه الى مدى اطول ويظهر ذلك جليا في شعر نازك الملائكة التى ربما استعملت تفعيلة خماسية او ربما تساعية وهي اطول نفس في الشعر الحر او شعر التفعيلة . لاحظ قول نازك في قصيدتها الغرباء :
أطفئ الشمعةَ واتركنا غريبَيْنِ هنا
نحنُ جُزءانِ من الليلِ فما معنى السنا?
يسقطُ الضوءُ على وهمينِ في جَفنِ المساءْ
يسقطُ الضوءُ على بعضِ شظايا من رجاءْ
سُمّيتْ نحنُ وأدعوها أنا:
مللاً. نحن هنا مثلُ الضياءْ
غُربَاءْ
اللقاء الباهتُ الباردُ كاليومِ المطيرِ
كان قتلاً لأناشيدي وقبرًا لشعوري
دقّتِ الساعةُ في الظلمةِ تسعًا ثم عشرا
وأنا من ألمي أُصغي وأُحصي. كنت حَيرى
أسألُ الساعةَ ما جَدْوى حبوري
إن نكن نقضي الأماسي, أنتَ أَدْرى,
غرباءْ
اما في قصيدة النثر المعاصرة فان نغميتها تعتمد على امكانية ومقدرة الشاعر في ايجاد موسيقى معينة تتناغم مع سطورها الشعرية من حيث اختيار الالفاظ وتقاربها فيما بينها بحيث تكون ذات تعبير موسيقي جديد يتفاعل مع التغيير الجذري لهذه القصيدة وقصيدة العمود الشعري مرورا بشعر التفعلية . يقول الشاعر محمد عفيفي :
يا أول الإيقاع في الفوضى وفاتحة الجمال
فاهبط خفيفًا واستمع:
تقبل القُربان منك، وقربتي رُدَّت علي
أختان من بطنين حالية وعاطلة
وأنت جميلة الثنتين لك
وأنا رجيم، والقبيحة لعنة قُدِّرت علي
فارفع سلاحك نحتكم لمن الغنيمة
سوف آخذ ما أشاء كما أشاء
ولأقتلنَّك
فالشاعرالمجيد من استجابت له حركة الشعر في نغمية القصيدة فتاتي ساحرة تواقة يتذوقها الشاعر والمتلقي وتنساب الى نفسه وذهنه انسياب قطعة موسيقية راقصة جميلة اشبه بانسياب سلسبيل ماء في نهريسير فيه الماء رقراقا .
امير البيــــــــــان العربي
د. فالح نصيف الحجية الكيلاني
العراق - ديالى - بلـــــــــدروز
**********************