بشار بن برد
هو أبو معاذ. بشار بن برد بن يرجوخ ، فارسي الأصل ينتهي نسبه إلى يستاسب بن الملك لهراسف وكان يرجوخ من منطقة طخارستان غرب نهر جيحون فسباه المهلب بن أبي صفرة وجاء به إلى البصرة وجعله من خادما لامرأته خيرة القشيرية وعندها انجبت زوجة يرجوخ برد ا فلما كبر برد زوجته ووهبته زوجة المهلب القشيرية لامرأة من بني عقيل من قيس عيلان كانت على علاقة شديدة بها فولدت له امرأته بشارا فأعتقته العقيلية فانتسب إلى بني عقيل بالولاء فقيل العقيلي نسبه لامرأة من بني عقيل تلك التي أعتقته.
ولد في نهاية القرن الأول للهجرة المباركة .اي في سنة \ 96 هجرية عند بني عقيل في بادية البصرة وأصله فارسي كما بينت اعلاه و من أقليم (طخارستان). أبوه كان يعمل في الطين فكان يقال له ( طيانا ) اما أمه فيقال أنها رومية. الاصل
. وقيل ولد بشار اعمى وقد وصف نفسه قائلا:
(عَميتُ جنيناً والذكاءُ من العَمَى
فجئتُ عجيبَ الظنَ للعلم
موئلا دميم الخلقة
طويلا ضخم الجسم(.
تعلم في مدينة البصرة حيث كانت حاضرة من حواضر الثقافة والعلم والادب في بني عقيل وذهب الى البادية فتعلم اللغة العربية بشكل جيد وكان ذكيا مفرطا اضافة الى تردده على حلقات المتكلمين بالمساجد يستمع إلى محاورات أصحاب الملل والنحل والأهواء المختلفة وانتقل بعدها إلى بغداد
اما نفسيته وتكوين شخصيته فقد تاثر فيها باصله الفارسي فكان حاد المزاج سريع الغضب وكان عماه الولادي له تاثير في نفسيته ايضا حيث قيل انه كان يشعر في قرارة نفسه بالمرارة والاسى و حقده على المبصرين كما كان لمستوى الحياة الفقيرة التي عاشها بالحرمان والتخلف اثر بالغ في تشكيل نفسية هذا الشاعر وحقده على المجتمع الذي عاش فيه ومن هم حوله فظهرت بوادرالشعوبية لديه في سن مبكرة
بشار شاعر مخضرم عاش في بني أمية وبني العباس
ولعل أول رحلة له كانت إلى حران فقد وفد إلى سليمان بن هشام بن عبد الملك فمدحه بقصيدة بائية وكان سليمان بخيلا فلم يعطه شيئا وقيل أعطاه خمسة آلاف درهم فاستقلها وردها عليه وخرج من عنده ساخطا وهجاه وكذلك كانت له وفادة على مروان بن محمد في دمشق فلم يعطه وقد وعده بشيء وأخلف وعده ، فهجاه بقصيدة لم يبق منها الا بيت واحد يقول فيه :
لمروان مواعد كاذبات كما
برق الحياء وما استهلا
وعموما فأن بشارا لم تكن له حظوة عند خلفاء بني أمية فعاد
الى البصرة ولبث فيها يمدح الولاة والقواد ويشبب بصوحباته من النساء وكانت البصرة حافلة بالعلماء والادباء في ذلك العهد مثل واصل بن عطاء شيخ المعتزلة ووصال بن عبد القدوس وعمرو بن عبيد وغيرهم من أصحاب الكلام ، الا ان واصل بن عطاء جافاه لما بلغه من إلحاده وحرض الناس على قتله .و عمرو بن عبيد ايضا ناصر واصل بن عطاء والحسن البصري ومالك بن دينار فتم نفيه من البصرة بحوالي سنة\ 127 هجرية فأقام في الكوفة يمدح الوالي يزيد بن هبيرة الفزاري ويمدح قيس عيلان حتى سقطت الدولة الأموية وقتل يزيد بواسط سنة\ 13 هجرية ، فرجع إلى البصرة وكان قد مات واصل بن عطاء الا أن عمرو بن عبيد لم يتركه يطمئن في أرضها بل سعى في نفيه ثانية ، فظل يتنقل من بلد إلى بلد حتى توفي عمرو بن عبيد سنة \145 هـ ، فأفرخ روعه وأنست به البصرة زمنا فأقام يمدح ولاتها حتى انتهت الدولة الاموية وقيام الدولة العباسية
بشار شخصية تغلغلت الشعوبية في نفسه فحين يفخر بنفسه وقومه الفرس يقسو على العرب بسخرية مريرة ولاذعة وعلى أغلب الظن كان سلاحه الحاد كردّ فعل مضاد لمن كان يستهين به وبشخصيته وبشاعريته ، ومقدرته اللغوية فيظهر شعوبيته على حقيقتها في نفسه غير هياب من احد :
ارفق بعمرو إذا حركت نسبتهُ
فإنـّه عربيّ ٌ من قوارير ِ
ما زال في كير حدادٍ يردّدهُ
حَتَّى بَدَا عَرَبِيًّا مُظْلِمَ النُّورِ
إِنْ جَازَ آباؤُه الأَنْذَالُ في مُضَرٍ
جازت فلوس بخارى في الدنانير
واشدُدْ يَدَيْكَ بِحَمَّادٍ أبي عُمَر
فإِنَّــــهُ نَبَطِيٌّ مـــن زنابير
ومن اخباره في ذلك ما يرويه صاحب الاغاني :
- دخل أعرابي على مجزأة بن ثور السدوسي وبشار عنده وعليه بزة الشعراء فقال الأعرابي من الرجل فقالوا رجل شاعر فقال أمولى هو أم عربي قالوا بل مولى فقال الأعرابي وما للموالي وللشعر فغضب بشار وسكت هنيهة ثم قال أتأذن لي يا أبا ثور قال قل ما شئت يا أبا معاذ فأنشأ بشار يقول :
ِسأخبر فاخر الأعراب عني
وعنه حين تأذن بالفخار ِ
أحين كسيت بعد العري خزاً
ونادمت الكرام على العقار
تفاخر يابن راعيةٍ وراع
بني الأحرار حسبك من خسار
وكنت إذا ظمئت إلى قراح ٍ
شركت الكلب في ولغ الإطار
تريغ بخطبة كسر الموالي
وينسيك المكارم صيد فار ِ
فلم يسبق أحدٌ بشاراً بمثل هذه الجرأة في التطاول على العرب ، ولكن هذا الشعر أغراه بالتمادي حيث وجد باب الحرية مفتوحا على مصراعيه ، وان الدولة الفتية منشغلة بالقضاء المبرم على الأمويين في عصر السفاح ومن بعد ثورتي النفس الزكية في المدينة المنورة وابراهيم الامام في البصرة
ولما انتقلت الخلافة إلى بني العباس وما كاد يستخلف أبو جعفر المنصور حتى خرج عليه محمد النفس الزكية واخوه إبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن السبط بن علي بن ابي طالب فثار محمد في المدينة فبايعه أهلها وأفتى بصحة البيعة الإمام مالك بن أنس
وثار إبراهيم بالبصرة وكان بشار منفيا عنها فأرسل إليه من الكوفة بقصيدته الميمية الشهيرة يحرضه بها على المنصور ويمدحه ويشير عليه ولكن الأخوين لم يوفقا في ثورتهما فظفر بهما الخليفة المنصور وقتلهما .
ولم تصل قصيدة الشاعر بشار إلى إبراهيم الامام أو أنها وصلت إليه وضاعت فلم يروها راو ية الا انه بدلها او قل عدلها او قلب معناها فجعل التحريض فيها على أبي مسلم الخراساني والمدح والنصر للمنصور .ولعل هذه القصيدة بعد تغييرها كانت السبب في اتصال الشاعر بالمنصور والحظوة عنده
ولما ولي المهدي الخلافة اتصل به بشار اتصالا وثيقا وأخذ يفد إليه ويأخذ جوائزه ، وكان شعره قد طار وتناقله الناس ، وكان المهدي شديد الحب للنساء غيورا عليهن فبلغته أبيات لبشار فيها مجون و عهر فلما قدم عليه استنشده الشعر فأنشده إياه فغضب الخليفة
وقال :
- ويلك أتحض الناس على الفجور وتقذف المحصنات المخبآت والله لئن قلت بعد هذا بيتا واحدا في نسيب لآتين على روحك
فلما ألح على بشار في ترك الغزل شرع يمدحه ويقول أنه قد ترك الغزل ، وودع الغواني ، ثم يأخذ في قص حوادثه الماضية ، فيتأسف عليها ويصف النساء اللواتي صاحبهن فلا يخلو كلامه من الغزل ، ولم يكن خبثه في هذا الأسلوب ليخفى على المهدي فأظهر له جفوة وحبس عنه عطاياه فكان يمدحه فلا يحظى منه بشيء من ذلك قال المهدي لبشار :
-أجز هذا البيت.
- أبصرت عيني لحيني
فقال بشار على البديهة :
أبصرت عيني لحين منظراً وافق شيني
سترته إذ رأتني تحت بطن الراحتين
فبدت منهُ فضول لــــم توار باليـدين
فانثنت حتى توارت بيـن طيٍّ العكنتين
فقال المهدي: والله ما أنت إلاّ ساحر، ولولا أنك أعمى لضربت عنقك
وحاول أن يتقرب من وزيره يعقوب بن داود فلم يحفل به ولا أذن له ولا أعطاه ، فرحل إلى البصرة غاضبا ، وأخذ يهجو المهدي ووزيره فكان طول لسانه سببا في هلاكه
و في العصر العباسي الاكثر انفتاحا وتقريبهم للفرس اخذ يجاهر بمجوسيته ومن ذلك قوله :
ورُب ذي تاج كريم الجد
كآل كسرى أو كآل برد
وعندما ساله الخلفة المهدي عن اصله قال :
ألا أيها السائلي جاهدا
ليعرفني أنا أنف الكرم
نمت في الكرام بني عامر
فروعي قريش وأصلي العجم
كان بشار بن برد هجاءا فاحشا في شعره هجى الخليفة المهدي ووزيره يعقوب بن داود. وهجى العلماء والادباء العرب وكان جريئا في الاستخفاف بكثير من الاعراف العربية وقيل كا ن يهجو من لا يعطيه ويعرض بهم مثل الاصمعي وسبيويه والاخفش وواصل بن عطاء وغيرهم ومن هجائه للخليفة المهدي وخلافته يقول :
بني أمية هبوا طال نومكمُ
إن الخلـــيفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
خليفة الله بين الزقِّ والعود
ومن اخباره انه روى عن نفسه انه انشد أكثر من اثني عشر الف قصيدة ولكن ما وصل الينا من شعره لا يرى في هذا القول سوى مبالغة هائلة فما وصل من شعره ليس بكثير و يعلل بعض المؤرخين الادب ان ما وصل الينا اقل بكثير مما قاله بشارحيث ان الرقابة الدينية والسياسية والاجتماعية في عصره قد حذفت كثيرا من شعره بعد وفاته وهو متهم في معظمه خاصة في الغزل والهجاء
ويبدو أن بشار كان مولعا بجرير وشعره فقد حاول في مطلع شبابه ان يهجوه حين كان العصر عصر هجاء والذي يعرف بالنقائض ولكن جرير استصغر بشارا ولم يرد على هجائه وكان بشاريأمل ان يرد عليه جرير فيشتهر لان جرير كان شاعرا يملأ الساحة الشعرية الأموية ومع ذلك يبدو أن بشارا ظل على حبه لجرير وحاول استغلال اسمه في شهرته وذيوع صيته فطلب من مغنية ان تغني ابيات جرير التي يقول فيها:
ان العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
و حاول ان يجعل المغنية تذكر انها ستغني شعرا أفضل من شعر جرير الذي تغنت به فطربت وانشدت من شعر بشار :
وذات دل كأن البدر صورتها
باتت تغني عميد القلب سكرانا
(ان العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا)
قلت احسنت يا سؤلي ويا املي
فاسمعيني جزاك الله احسانا
يا حبذا جبل الريان من جبل
وحبذا ساكن الريان من كانا
قالت فهلا فدتك النفس احسن من
هذا لمن كان صب القلب حيرانا
يا قوم اذنى لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
فقلت احسنت انت الشمس طالعة
اضرمت في القلب والاحشاء نيرانا
لم أدر ما وصفها يقظان قد علمت
وقد لهوتُ بها في النومِ أحيانا
باتت تناولني فاهاً فألثمـــــهُ
جنيّة زُوّجت في النوم إنســانا
فاسمعيني صوتا مطربا هزجا
يزيد صبا محبا فيك اشجانا
يا ليتني كنت تفاحا مفلجة أو كن
ت من قضب الريحان ريحانا
حتى إذا وجدت ريحي فأعجبها
ونحن في خلوة مثلت إنسانا
فحركت عودها ثم انثنت طربا
تشدو به ثم لا تخفيه كتمانا
أصبحت اطوع خلق الله كلهم
لاكثر الخلق لي في الحب عصيانا
قلت اطربينا يا زين مجلسنا
فهات انك بالاحسان اولانا
لو كنت اعلم أن الحب يقتلني
اعددت لي قبل أن القاك اكفانا
فغنت الشرب صوتا مؤنقا رملا
يذكي السرور ويبكي العين الوانا
لا يقتل الله من دامت مودته
والله يقتل اهل الغدر أحيانا
كان بشار مفتونا بشعره وبالنساء وبالحياة التي اقتحمها معبرا عن الزمن ببيته الشعري الذي يقول فيه:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
معارضا بيت الشاعر سلم الخاسر الذي يقول فيه :
من راقب الناس مات هما
و فاز باللذات من كان جسورا
ومن اخباره انه عشق امرأة يقال لها (عبدة ) وقد نظم فيها اشعارا كثيرة يقول فيها:
أَبِيتُ أَرمَدَ مَا لمْ أَكْتحِلْ بِكُمُ
وَفِي اكْتِحالٍ بِكُمْ شافٍ مْن الرَّمَدِ
وَكُلُّ حِبٍّ سَيَسْتشْفِي بِحِبَّتِهِ
سَاقتْ إلى الغيِّ أَوْ سَاقتْ إِلى الرَّشدِ
ويقول فيها ايضا :
يا منية القلب إنّي لا أسميك ِ
أكني بأخرى أسميها وأعنيـكِ
يا أطيب الناس ريقاً غير مختبر
إلاّ شهادة أطراف المساويك
قد زرتنا زورة في الدّهر واحدة
فاثني ولا تجعليها بيضة الديكِ
يتميز بشار بشاعرية خصبة أصيلة أتيح لها أن تتجاوب مع روح العصر وتعبر عن خوالج النفس وقد اجاد في اغلب الفنون الشعرية وكان قوي الحس مرهف الشعور سريع الانفعال. ذا قدرة فائقة على التوفيق بين اللفظ والمعنى وبين الصورة الشعرية والموضوع فهو شاعر مطبوع غير متكلف وقد وهبه الله تعالى طبعاً قاسياً وذكاءً حاداً
فالغزل احتل جانباً مهماً من شعره فهو يصف مجالس حبه ويتحدث عمن يحب
يقول عنه الجاحظ:
( إنه هو والأعشى وهما أعميان قد اهتديا من حقائق هذا الأمر ما لا يبلغه البصير ولـ بشار خاصية في هذا الباب ما ليس لأحد)
وقال عنه صا حب الاغاني :
( عهدي بالبصرة وليس فيها غزل ولا غزلة إلا ويروى من شعر بشار )
ويذكر صاحب الاغاني :
( كان بشار يهوى امرأة من أهل البصرة فراسلها يسألها زيارته فوعدته بذلك ثم أخلفته وجعل ينتظرها ليلته حتى أصبح فلما لم تأته أرسل إليها يعاتبها فاعتذرت بمرض أصابها فكتب إليها بهذه الأبيات
يا ليلتي تزداد نكرا ... من حب من أحببت بكرا
حوراء إن نظرت إليك ... سقتك بالعينين خمرا
وكأن رجع حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا
وكأن تحت لسانها .. . هاروت ينفث فيه سحرا
وتخال ما جمعت عليه . .. ثيابها ذهبا وعطرا
وكأنها برد الشراب . . . صفا ووافق منك فطرا
جنية إنسية ... أو بين ذاك أجل أمرا
وكفاك أني لم أحط .. . بشكاة من أحببت خبرا
إلا مقالة زائر ... نثرت لي الأحزان نثرا
متخشعا تحت الهوى . .. عشرا وتحت الموت عشرا
ويتضح في غزل بشار أنه كان يتمثل بكل ما نظم في هذا الفن منذ القدم من التشبيب والنسيب والبكاء على الديار ومن الغزل المادي عند عمر بن أبي ربيعة وأقرانه ومن الغزل العذري عند قيس ليلى و جميل بثينة وأمثالهما وفي اسلوب جديد يستلهم الرقي العقلي الحديث والحضارة العباسية وكان يردد في شعره ما يتمثل بتعويض بصره من سمعه حيث اثبت أن السمع يحل بمكان العين في تقدير الجمال فيقول :
:
يا قوْمِ أذْنِي لِبعْضِ الحيِّ عاشِقةٌ
والأُذن تَعْشَقُ قبْل العَيْن أحْيانَا
قالوا بِمَن لا تَرى تَهْذِي فقُلْتُ لَهُمْ
الأُذنُ كالعَيْن تُؤْتِي القَلْبَ ما كَانَا
فهذه براعة عجيبة في صياغة شعر الغزل عنده وقد اجاد فيها
و بشار من الشعراء المجددين فقد كان يقتني الكلمات البسيطة العذبة الرقيقة المحببة من مسامع عامة الناس دون تبذّل لغوي بتطويع اللغة، و ببحر راقص قابل للغناء والطرب في عصره وبشعر حضري ناعم يهدهد به على المكشوف ، لا حاجة للشكوى من الحرمان، ونقض العهد والهجران ، والتلميح والرمز فبشار أول من جعل الأذن تعشق قبل العين أحيانا ً:
يا قوم اذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي؟فقلت لهم
الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
وكأنّه يخشى أنْ تنسى أذنه ، فيما تراه أعين الآخرين يحسب المبصرين ببصيرتهم دون إحساسا او إنَّ إحساسه ليفوق إحساسهم وانه لا يخجل من تكرار المعنى قائلا :
فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى
فبالقلب لابالعين يبصره واللب
وما تبصرالعينان في موضع الهوى
ولا تسمع الأذنان إلا من القلب
وكذلك يقول :
قالت عقيل بن كعب إذ تعلقها
قلبي فأضحى به من حبها أثــــرُ
أنّى ولم ترها تصبو ؟فقلت لهم
إن الفؤاد يرى ما لا يرى البصرُ
ويقول في قصيدة اخرى وهي من روائع الشعرالعربي :
بلّغوها إذا أتيتم حماها
أنني متُّ في الغـــرام فداها
واصحبوها لتربتي فعظامي
تشتهي أنْ تدوسها قدماها
رحمة ربّ لستُ أسأل عدلاً
رب خذني إن أخطأت بخطاها
دع سليمى تكون حيث تراني
أو فدعني أكون حيث أراها
اما مديحه وهو الوسيلة التي يعتمد عليها في توفير ما ينفقه من المال الوفير الذي يحتاجه لينفقه في حياته و في ملذاته لذا كان مبالغا في مدائحه طمعا في رضى الممدوح ولإغرائه بالعطاء ويعد المديح أهم غرض وصلَّ بشاراً بالتراث فقد حافظ فيه على نهج القدماء سواء من حيث جزالة الألفاظ ورصانتها ومتانتها، أو من حيث المنهج الذي سار عليه القدماء حيث كانوا يبداؤن قصائد المديح بالغزل والنسيب ثم الوصف ثم المدح ثم الحكمة وهذا ما سلكه بشار في كثير من مدائحه ، بل احتذى نفس المعاني والأخيلة. وأخذ يخلع على ممدوحيه من الخلفاء والولاة نفس الشيم الرفيعة التي طالما خلعها الشعراء الجاهليون والإسلاميون مثل الكرم والمروءة والشجاعة والصفات الدينية التي خلعها الإسلاميون على ممدوحيهم من الخلفاء والوزراء. يقول في احد ممدوحيه :
إِذَا جِئتَهُ للْحَمْدِ أشْرَقَ وَجْهُهُ
إِلَيْكَ وأعْطَاكَ الكرَامةَ بالحَمد
اما الهجاء عند بشار فقد كان شديد الوطأة في هجائه خاصة على هؤلاء الذين يمتنعون عن عطائه فكان يهجوهم مرالهجاء وكان إذا هجا قوما جاؤوا الى أبيه فشكونه فيضربه ضربا شديدا موجعا فكانت أمه تحنو عليه و تقول لابيه :
- كم تضرب هذا الصبي الضرير ، أما ترحمه!)
فيقول ابوه لها: بلى والله إني لأرحمه ولكنه يتعرض للناس فيشكونه إلي فسمعه بشار فطمع فيه فقال له :
- يا أبتِ إن هذا الذي يشكونه مني إليك هو قول الشعر وإني إن ألممت عليه أغنيتك وسائر أهلي فإن شكوني إليك فقل لهم : أليس الله يقول : ليس على الأعمى حرج
فلما عاودوه شكواه الى ابيه قال لهم ما قاله بشار فانصرفوا وهم يقولون :
- فقه برد أغيظ لنا من شعر بشار.
فبشارا طبع على الشعر منذ حداثته وطبع معه على الهجاء وحب التكسب والسخر بالدين والناس فقد عرف بذكائه الفطري وأن والده ساذج جاهل فعبث بأبيه لينجو من عقابه ولم يتحوب من العبث بآية القرآن الكريم فأولها إلى غير معناها حيث جعل الأعمى بريئا من الإثم إذا ما اقترفه ، والآية المباركة لا تقصد إلا إعفاء الاعمى من التكاليف التي لا قبل له بها كالجهاد في سبيل الله
ونجد في شعره ايضا خيوطاً جديدة متجدد ة من الحكمة في استلهامه من ذلك قوله:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
ومن اخباره : . اتهم في آخر حياته بالزندقة. فضرب بالسياط حتى مات. وقد ذكر ابن المعتز في كتابه ( طبقات الشعراء) سبب وفاته فقال:
(كان بشار يعد من الخطباء البلغاء الفصحاء وله قصائد وأشعار كثيرة فوشى به بعض من يبغضه إلى المهدي بأنه يدين بدين الخوارج فقتله المهدي وقيل: بل قيل للمهدي:
إنه يهجوك فقتله
.واتهم في آخر حياته بالزندقة. فضرب بالسياط حتى مات. وقد ذكر ابن المعتز في كتابه ( طبقات الشعراء) سبب وفاته فقال:
(كان بشار يعد من الخطباء البلغاء الفصحاء وله قصائد وأشعار كثيرة فوشى به بعض من يبغضه إلى المهدي بأنه يدين بدين الخوارج فقتله المهدي وقيل: بل قيل للمهدي:
إنه يهجوك فقتله والذي صح من الأخبار في قتل بشار أنه كان يمدح المهدي والمهدي ينعم عليه فرمي بالزندقة فقتله وقيل: ضربه سبعين سوطا ً فمات وقيل: ضرب عنقه)
وقيل كان المهدي قدم البصرة فدخل عليه وزيره يعقوب وقال:
.- .أن بشار زنديق وقد ثبتت البينة وقد هجا أمير المؤمنين
فأمر قائد الشرطة أ ن يقبض على بشار بن برد .. ويضربه بالسوط حتى الموت فأخذوه في زورق وجسلوا يضربونه على النهر فكلما ضربوه بالصوت قال بشار ( حس ) و حس هي كلمة تقال عند العرب لمن أحس بالألم . فقال بعضهم :
- انظروا إلى زندقته ما نراه يحمد الله تعالى .
. فقال بشار: ويلك (أثريد) هو حتى أحمد الله عليه
... فما وصل إلى السبعين سوطا أشرف على الموت فألقي على صدر السفينة فقال بشار:
ليت عين الشمقمق تراني حين يقول :
(إن بـشــار بـــن بـــرد تيس أعمى في سفنية )
ثم مات من ساعته وقد عمّر سبعين عاما وكان موته سنة \198 هجرية – 813 ميلادية .
وقيل أنه دفن مع الشاعر الخليع حماد عجرد ، فكأن الأقدار شاءت أن تجمع بين هذين الشاعرين في قبر واحد ، بعد أن تنافرا شطرا من حياتهما وتباعدا وتقارضا أقذع الهجاء.
وفي الختام اذكر ميمية بشار بن برد في مدح ابراهيم الامام بن عبد الله المحض بن الحسن بن الحسن السبط بن علي والتي عدلها الى مدح المنصور:
أبا جعفر ما طول عيش بدائم
ولا سالم عما قليل بسالم
قلب هذا البيت فقال أبا مسلم
على الملك الجبار يقتحم الردى
ويصرعه في المأزق المتلاحم
كأنك لم تسمع بقتل متوج
عظيم ولم تسمع بفتك الأعاجم
تقسم كسرى رهطه بسيوفهم
وأمسى أبو العباس أحلام نائم
يعني به الوليد بن يزيد
وقد كان لا يخشى انقلاب مكيدة
عليه ولا جري النحوس الأشائم
مقيما على اللذات حتى بدت
وجوه المنايا حاسرات العمائم
وقد ترد الأيام غرا وربما
وردن كلوحا باديات الشكائم
ومروان قد دارت على رأسه الرحى
وكان لما أجرمت نزر الجرائم
فأصبحت تجري سادرا في طريقهم
ولا تتقي أشباه تلك النقائم
تجردت للإسلام تعفو سبيله
وتعري مطاه لليوث الضراغم
فما زلت حتى استنصر الدين أهله
عليك فعاذوا بالسيوف الصوارم
فرم وزرا ينجيك يابن سلامة
فلست بناج من مضيم وضائم
جعل موضع يابن سلامة يابن
وشيكة وهي أم أبي مسلم
لحا الله قوما رأسوك عليهم
وما زلت مرؤوسا خبيث المطاعم
أقول لبسام عليه جلالة
غدا أريحيا عاشقا للمكارم
من الفاطميين الدعاة إلى الهدى
جهارا ومن يهديك مثل ابن فاطم
هذا البيت الذي خافه وحذفه بشار من الأبيات
سراج لعين المستضيء وتارة
يكون ظلاما للعدو المزاحم
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
براي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تعجل الشورى عليك غضاضة
فإن الخوافي قوة للقوادم
وما خير كف أمسك الغل أختها
وما خير سيف لم يؤيد بقائم
وخل الهوينا للضعيف ولا تكن
نؤوما فإن الحزم ليس بنائم )
( وحارب إذا لم تعط إلا ظلامة
شبا الحرب خير من قبول المظالم )
******************************************