ملامح التجديد الشعر العربي الحديث
بقلم : د . فالح الكيـــلاني
الشعر الحديث او شعر الحداثة نقصد به الشعر الذي نظم ابتداءً من بداية القرن العشرين او قبيله باعوام قلائل حيثُ ظهر عددٌ من الشعراء ممن رأوا أنَّ الحياة العصريّة بما فيها من تطور فكريّ واجتماعيّ او الحالة السياسية التي هي اهم كل الامور في احداث امتنا العربية في ذلك الوقت تستدعي ايجاد شعر يستوعب كل حالات التطور الحداثي ويتفاعل مع العقول الفكريّة الحديثة او الشبابية في مجتمعنا العربي والتي تتميز بحب الامة العربية ويجري في عروقها الدم العربي والثورة على الاستعمار والاستبداد ومنهم الشعراء وقود الثورة العربية قديما وحديثا وتتمثل في انفسهم وافكارهم أهم ملامح التجديد على الشعر العربيّ في العصر الحديث .
ظهرت في هذه الفترة تيارات شعرية متعددة تحمل مظاهر التجديد في الشعر العربي الحديث وكل تيار له مظاهره الخاصة تلك التي انطلق منها التجديد متشحا بالسمو والرقي الشعري واهمها هذه التيارات الادبية التي سميت بمدارس ادبية او اطلق عليها اسم مدارس الشعر وان كثرت او تعددت وتراسها كبار شعراء الامة واساتيذها في الشعر والادب واود ان اذكر اهمها واشهرها بما يلي :
مدرسة الاحياء
امتازت هذه المدرسة الادبية الشعرية بالمحافظة على الشعر العربي عبر الفترات الزمنية واستلهام التراث الشعري وكلاسيكيته حيث انتهج شعراء هذه المدرسة وجهة شعراء المشرق العربي في العصور المتقدمة مثل العصر الاموي او العصور العباسية او التقدم في الشعرالاندلسي والبحث نحو الاسمى والافضل في انبعاث الشعر العربي من جديد وانتشاله مما خيم عليه في الفترات الراكدة خلال فترة دول التتابع او الفترة الراكدة والتي كادت تقضي على ملامح التجديد في الشعرالعربي . وقد قاد هذه المدرسة وانتسب اليها الشعراء الافذاذ منهم محمود سامي البارودي والذي يعد من اهم اعضائها واقدمهم واشهرهم اضافة الى احمد شوقي اميرالشعراء وحافظ ابراهيم و معروف الرصافيّ وجميل صدقي الزهاوي وشكيب أرسلان وغيرهم كثير .
فمدرسة الاحياء سايرت حركة التجديد في الشعرالعربي وقادتها وتبنتها وعملت على احياء التراث العربي والثقافة العربية من جديد وقامت باهم عمل هو نشر دواوين الشعر القديمة وساعدت في نشرها واحيائها مجددا. وتبنت الرجوع الى الماضي العتيد والتعريف بالشعراء العرب في العصور الماضية ومحاولة احياء نشر تراثهم من جديد من خلال تاسيس دار الكتب المصرية التي اتخذت على عاتقها نشر التراث العربي . واعتبرت الشعرالعربي هو التعبير الاسمى عن روح العصر وتقدمه والانفتاح في كل امور الحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية متخذة من القصيدة العربية ونظمها وبيانها وبلاغتها وجودة صياغتها وشددت على اختيار الالفاظ الحديثة نحو الاسمى والافضل واختيار البحور الشعرية المناسبة والالتزام بالجرس الموسيقي للقصيدة العربية والالتزام بالبحور الفراهيدية الرائعة والتقييد بها بحيث بقيت القصيدة العمودية هي القصيدة الفاعلة في الشعرالعربي من حيث النظم واختيار الالفاظ الافضل مع ضرورة الاحتفاظ بكلاسيكية الكلمة العربية والتمسك بعمود الشعر العربيّ وبالتقاليد الفنيّة التي كان يعتمدها الشعراء .
و من شعر البارودي هذه الابيات :.
وكيف ترون الذل دار إقـــامـة
وذلك فضل الله في الأرض واسـعُ
أرى رؤوساً قد أينعت لحصادهــا
فأين ـ ولا أين ـ السيوف القواطعُ ؟
فكونوا حصيدا خامدين أو افزعـوا
إلى الحرب حتى يدفع الضيم دافـع
أهبت فعاد الصوت لم يقض حاجـة
أليّ ولبّاني الصدى وهو طائـــعُ
فلم ادرِ أن الله صور قبلكـــــم
تماثيل يخلق لهن مسامـــــعُ
مدرســـة الديـــوان :
اعتمدت مدرسة الديوان الحداثة والتطور خلافا لمدرسة الاحياء واهتمت بالنقد الادبي اضافة الى الشعر واعتمدت النظرة الرومانسية في الثقافة والادب وتأثرت بالمذهب الرومانسيّ في التجديد في موضوعات الشعر، والتعبير عن الإنسانيّة. واهم ادبائها عباس محمود العقاد وعبد الرحمن شكري وابراهيم المازني واعتمدت التركيز على الجانب الفكريّ في القصيدة، وعدم اقتصارها على الجانب العاطفيّ، فهي تمزج بين العاطفة والتفكير.والاهتمام بالشعر القصصي السرديّ.وتصوير الطبيعة وجمالها والتعبير عن أحزان النفس الإنسانيّة. والتحرر من القافية الواحدة وتنويع القوافي ضمن القصيدة الواحدة و التزام الشاعر البحر الواحد فكانت هذه الحالة ممهدة لظهور الشعر المرسل.واستعمال الفاظ لغوية ملائمة لحالة العصر الذي يعيش فيه الشاعر. وتعتبر هذه المدرسة مدرسة شعريّة أدبية نقديّة جديدة فكانت بمثابة مدرسة تجديدية ثائرة على النهج التقليدي الكلاسيكي والموضوعات التقليدية التي نظم فيها شعراء مدرسة الإحياء وكان رأى العقاد بأن الشّعر يجب أن يكون نابعًا من النفس والشعور وموجّهًا لمخاطبة الشعور الإنساني في الواقع العام. ومن شعر المازني هذه الابيات :
سل الخلصاء ما صنعوا بعهدى
أضاعوه وكم هزلوا بجـــــدى
ركبت إليهم ظهر الأمـــــانى
على ثقة فعــــدت أذم وخدى
وصلت بحبلهم حبلى فلما
نأوا عنى قطعت حبال ودى
مدرسة أبولّو :
هي المدرسة التي جمّعت الشعراء الرومانسيين . أسس هذه المدرسة في مصر أحمد زكي أبو شادي، واسمها مأخوذ من كلمة أبولون ومن أهم شعراء المدرسة الرومانسية، علي محمود طه، وأبو القاسم الشابي، وإبراهيم ناجي، وقد غلب على شعر هذه المدرسة الطابع الرومانسي والانفتاح على الطبيعة ورحابها والشكوى الى الطبيعة . واهتمت بقيمة الإحاسيس النفسية و بالموجودات وأثارت التساؤلات الوجودية بقالب رومانسي واحسّاس مرهف . ومن شعر ابي القاسم الشابي هذه الابيات :
لَسْتُ أبْكي لِعَسْفِ لَيْلٍ طَويلٍ أَوْ لِربعٍ غَدَا العَفَــــاءُ مَرَاحهْ
إنَّما عَبْرَتِي لِخَطْبٍ ثَقِيلٍ قد عَرانـــا، ولم نجد من أزاحـــهُ
كلّما قامَ في البــــــلادِ خطيبٌ مُوقِظٌ شَـــــعْبَهُ يُرِيدُ صَلاَحَهْ
ألبســــــوا روحَهُ قميصَ اضطهـــادٍ فاتكٍ شائكٍ يردُّ جِماحَهْ
وتوخَّوْا طرائقَ العَسف الإِرْ هَا قِ تَوًّا، وَمَا تَوَخَــــّوا سَمَاحَهْ
هكذا المخلصون في كلِّ صوبٍ رَشَقَاتُ الرَّدَى إليهم مُتَاحَـــهْ
أَنَا يَا تُوْنُــــسَ الجَمِيلَة فِي لُجِّ الهَوى قَدْ سَبَحْتُ أَيَّ سِبَاحَهْ
شِــــــرْعَتي حُبُّكِ العَمِيقُ وإنِّي قَدْ تَذَوَّقْـــــتُ مُــــرَّهُ وَقَرَاحَهْ
لســـــتُ أنصاعُ للوَّاحي ولو مـ ـتُّ وقامتْ على شبابي المناحَــــة
مدرسة المهجر :
تكونت هذه المدرسة نتيجة لهجرة عدد كبير من الشباب العربيّ طلبا للعيش والكسب وانهزاما من ظلم الحكام الظالمين الذين حكموا بلادهم في ظل الاستعمارالاجنبي . وقداستقر بعض هؤلاءالشعراء في الولايات المتحدة الأمريكيّة وأسسوا الرابطة القلمية برئاسة جبران خليل جبران، وكان شعراء هذه المدرسة ينشرون شعرهم في مجلة (السائح) .
أمّا جماعة المهجر الجنوبيّ فقد استقروا في البرازيل و أسسوا هناك ما يسمى ( العُصبة الأندلسيّة ) وكان على راسها ميشيل معلوف، وكانوا ينشرون ما ينظمون او يكتبون في (مجلة العُصبة ) فهي نافذتهم على العالم .
وتميزت هذه المدرسة في الدفاع عن الوطن والحنين إليه،وكانت قصائد شعرائها تلتهب نارا وثورة وتشكو اثر اكتوائهم بنار الغربة التي أبعدتهم عن أوطانهم فجاءت مليئة بالاشواق والعواطف الجيّاشة. ونلاحظ امتزاجهم بالطبيعة ومحاورتهم لها وبث شكواهم وقلقهم وخوفهم لها في نزعة إنسانيّة غير متزمتة، وفي نظرة يحدوها رغبتهم الى الخير المطلق للجميع من خلال اعتمادهم على الخطاب المباشر في التعبير فكانت كلماتهم وقصائدهم مفعمة بالمعاني التعبيرية وكأنها همس الافئدة والنفوس المُحبة. و نلاحظ فيها العناية بالصور الشعرية وفنيتها في التعبير عن تشخيص المعاني السامية وتجسيدها. وتنوع القوافي في القصيدة الواحدة مما يؤكد تاثرهم بالموشحات الأندلسيّة وجماليتها . ومن شعراء هذه المدرسة ايليا ابو ماضي ورشيد سليم الخوري وميخائيل نعيمة .
ومن شعر ايليا ابو ماضي هذه الابيات الجميلة من قصيدته الرائعة ( الطين ) :
نَسِيَ الطينُ ساعَةً أَنَّهُ طينٌ
حَقيرٌ فَصالَ تيها وَعَربَـــــد
وَكَسى الخَزُّ جِسمَهُ فَتَباهى
وَحَوى المالَ كيسُهُ فَتَمَرَّد
يا أَخي لا تَمِل بِوَجهِكَ عَنّي
ما أَنا فَحمَة وَلا أَنتَ فَرقَد
أَنتَ لَم تَصنَعِ الحَريرَ الَّذي
تَلبَس وَاللُؤلُؤَ الَّذي تَتَقَلَّد
أَنتَ لا تَأكُلُ النُضارَ إِذا جِع
ت وَلا تَشرَبُ الجُمانَ المُنَضَّد
أَنتَ في البُردَةِ المُوَشّاةِ مِثلي
في كِسائي الرَديمِ تَشقى وَتُسعَد
لَكَ في عالَمِ النَهارِ أَماني
وَرُأى وَالظَلامُ فَوقَكَ مُمتَد
وَلِقَلبي كَما لِقَلبِكَ أَحــــلا
مٌ حِســـــانٌ فَإِنَّهُ غَيرُ جَلمَد
اامانـــــي كُلَّهـــا مِن تُـــرابٍ
وَأَمانيكَ كُلَّها مِن عَسجَـــــد
أَيُّها المُزدَهي إِذا مَسَّكَ السُقـ
ـمُ أَلا تَشتَكي أَلا تَتَنَهَّـــــد
وَإِذا راعَكَ الحَبيبُ بِهَجرٍ
وَدَعَتكَ الذِكرى أَلا تَتَوَجَّد
مدرسة التفعيلة( الشعر الحر) :
من اظهر الملامح التجديدية في الشعرالعربي في الهصر الحديث ظاهرة الشعر الحر . وهذا التحول وجد في بدايته في العراق على يد نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب ومحمود درويش من فلسطين ونزار قباني من سوريا ومحمد الفيتوري من السودان وقد استطاع أعلام هذه المدرسة الوصول إلى آفاق بعيدة المدى في سماء الشعر العربيّ بعدما كانوا يكتبون القصيدة العمودية التي هي اساس الشعرالعربي قديما ولا زالت . وقد انتقلوا بشعرهم من نظام الشطرين في القصيدة العربية إلى النظم في القوافي المتعددة ذات الشطر الواحد، واعتمدوا موسيقى بحور معينة في ىنظم قصائدهم مثل بحر الكامل وبحر الهزج والمتدارك وقد استخدموا الشطر الواحد في نظمهم فكان السطرالشعري يتكون من تفعيلة او تفعيلتين او اكثر وربما امتد الى تسع تفعيلات كاقصى حد . وقد كثرت في شعرهم الامراض العروضية الى درجة كبيرة فكانت نتيجة حتمية لولادة قصيدة النثر في الشعرالعربي المعاصر . وقصيدة النثر تكاد تقضي على موسقى الشعرالعربي في نظمها وتفقده الوزن الشعري .
ومن شعر نازك الملائكة هذه الاسطر من قصيدتها الكوليرا :
سكَن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
فى عُمْق الظلمةِ، تحتَ الصمتِ، على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو، تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
فى كل فؤادٍ غليانُ
فى الكوخِ الساكنِ أحزانُ
فى كل مكانٍ روحٌ تصرخُ فى الظُلُماتْ
فى كلِّ مكانٍ يبكى صوتْ
هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ
طَلَع الفجرُ
أصغِ إلى وَقْع خُطَى الماشينْ
فى صمتِ الفجْر، أصِخْ، انظُرْ ركبَ الباكين
عشرةُ أمواتٍ، عشرونا
لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا
اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين
مَوْتَى، مَوْتَى، ضاعَ العددُ
مَوْتَى، موتَى، لم يَبْقَ غَدُ
فى كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ
لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ
اجع كتابي ( ملامح التجديد في الشعرالعربي – جـ 2
.
امير البيــــــان العربي
د. فالح نصيف الكيـــــلاني
العراق – ديالى – بلـــدروز
***********************