الفنون الشعرية في العصر العباسي
مما لا شك فيه ان الشعر يمثل حياة الانسان في المجتمع ويصورها افضل تصوير فمن يطلع على شعر حقبة زمنية معينة يستطيع معرفة الكثيرعن احوال هذا المجتمع في تلك الحقبة الزمنية .
اما افنون الشعرية فاول هذه الفنون والاقرب الى نفوس الخلفاء والامراء والقادة هو الفخر والمديح فقد بلغ من التوسع شاءوا كبيرا وعظيما واتسعت آفاقه وكان من اهم اسباب تقدمه ورقيه واتساع مفاهيمه ودقة اساليبه تقريب الخلفاء والامراء للشعراء اليهم وكثرة وجود العديد من العواصم والمدن التي يتواجد فيها الامراء واصحاب الشان ومحاولة كل منهم ان يجمع اكبر عدد من الادباء الشعراء والعلماء في مجلسه ليكون افضل من مجالس الاخرين . وبذخهم المال على هذه المجالس ومنح الهبات والعطايا السنية للشعراء وغيرهم ومنهم من امّل الشعراء بالامارة كما فعل الاخشيد مع المتنبي ومنهم من اهدى الشعراء الضياع والجواري الحسان اضافة الى المال الكثير فكانت هذه اسباب ازدياد الشعراء وتهافتهم على هذه المجالس فكثر المدح والفخر والغلو فيهما .
وقد تميز المدح في هذا العصر بالاطراء والمبالغة كما في وصف المعارك والامراء وهم يقاتلون وينافحون عن البلاد وكذلك مدح الامراء والقادة والشجعان من المقاتلين و ذكرت تلك الانتصارات التي حققوها في هذ ا العصر كما فعل المتنبي والشريف الرضي وابن الهبارية وابن مطروح وابن النبيه وغيرهم .
يقول المتنبي في مد ح سيف الدولة الحمداني :
رايتك محض العلم في محض قدرة
ولو شئت كان الحلم منك المهند ا
وما قتل الاحــــــرار كالعفو عنهم
من لك بالحر الذي يحفظ اليدا
اذا انت اكرمت الكريم ملكته
وان انت اكرمـــــت اللئيم تمر د ا
ولكن تفوق الناس رأ يا وحكمة
كما فقتهم حالا ونفســـــــا ومحتدا
والغزل من ارق الفنون اوالاغراض الشعرية واحبها الى النفس البشرية لذ ا توسعت وتشعبت وظهرت فيه عدة فنون جديدة تكاد تكون فنونا مستقلة , منها الغزل التقليدي والغزل بالمذكر والغزل الخليع وغزل الحب الصادق والالم والحسرة والغرام والشكوى والوله القاتل وما يحس به الشاعر الواله او العاشق وكذلك الغزل الصوفي الذي يعتبر امتدادا لشعر الزهد حيث نشأ بالعراق ثم انتقل الى مواطن اخرى ومن اهم شعراء التصوف : القشيري وابن الفارض وابن عربي والحلاج ورابعة العدوية والشيخ عبد القادر الكيلاني والسهروردي .
لاحظ الشيخ عبد القادرالكيلاني يقول:
مافي الصبابة منهل مستعـــــــــــذب
الا ولي فيه الالذ الاطيــــــــب
اوفي الوصال مكانة مخصوصــــــة
الا او منزلتي اعز واقـــــــرب
وهبت لي الايام ر ونق صفوهـــــــا
فغلا مناهلها وطاب رالمشرب
اضحت جيوش الحب تحت مشيئتي
طوعا ومهما رمته لا يغـــــرب
. اما الشعر الفلسفي فقد نشأ في الشام او يكاد ان يكون هكذا ومنها تسرب .وممن اقحم الفلسفة في الشعر ابو العلاء المعري وابن سينا والرازي وغيرهم وكانت روح العصر تتطلب ايجاد مثل هذه الفنون .
وتعجبني هذه الابيات للمعري :
اذا رجع الحصيف الى حجاه
تهاون بالشرائع وازدراها
فخذ منها بمـــــــا اتاك لب
ولا يغمسك جهل في صراها
وهت اديانهم من كل وجه
فهل عقل يشـــــد به عراها
وكذلك توسع فن الوصف واتسعت معالمه ومجالات القول فيه فقد وصف الشعراء المعارك الحامية التي دارت بين المسلمين والاقوام الاخرى ووصفوا البلدان التي فتحت على ايديهم كما وصفوا بل وا كثروا من وصف الطبيعة ومناظرها الرائعة الخلابة ومظاهرها وجمالها الساحر ووصفوا مجالس الخمرة ومجالس الغناء ووصفوا النساء المشاركات فيها وهن يرقصن ويغنين ووصفوا الرياض والقصور والعمران والزهور في الحدائق والانهار و تفتقت اخيلتهم في هذه الوصوف وظهرت المقدرة لدي العديد من الشعراء مثل الصنوبري الذي اختص في وصف الطبيعة والوءواء الدمشقي والحمداني والمتنبي في وصف المعارك . يقول الصنوبري في وصف زهرة شقائق النعمان :
كأن محمر الشقيق اذا تصوب او تصعد
اعلام ياقوت نشرن على بساط من زبرجد
وظهر كذلك فن التشكي من الزمن ومن الاحداث الاجتماعية وكان موجودا كشذرات في قصائد الشعراء الا انه في هذا العصر ظهر كفن جديد ويتميز بذكر الحوادث والاحدات التاريخية ونقد المجتمع نقدا تحليليا والشكوى من مصائبه واحداثه وهي كثير .
لاحظ قول ابي العلاء المعري فيه :
دنياك دار شرور لا سرور بها
وليس يدري اخوها كيف يحترس
بينا امرؤ يتوقى الذئب عن عرض
اتاه ليث على العلات يفترس
الا ترى هرمي مصر وان شمخا
كلاهما يبقين سوف يندرس
واصاب الهجاء في هذا العصر بعض التوسع و كان من اسبابه التنافس بين الشعراء حول الحضوة لدى الامراء والخلفاء. وتميز هذا العصر بالاسراف في القول البذيء والنيل من الاعراض مما يذكرني بهجاء الحطيئة في العصرين الجاهلي وصدرالاسلام و شعر النقائض بين جرير والاخطل او الفرزدق .
ومن اشهر شعراء الهجاء المتنبي وابن الصياد وما هجاء ابي الطيب المتنبي في كافور الاخشيدي عنا ببعيد بعد ان مناه كافور الاخشيدي وامله بالامارة ثم غدر به و نكث وعوده اليه فصب المتنبي عليه غضب الدهر ولعنة الزمن على مدى الدهور والازمنة وجعله اضحوكة للاخرين يقول :
كلما اغتال عبد السوء سيده
او خانه فله في مصر تمهيد
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمن وما تفنى العناقيد
العبـــــد ليس صـــــالح باخ
لو انه في ثياب الحر مولود
لا تشتري العبد الا والعصا معه
ان العبيد لانجـــــاس مناكيد
ما كنت احسبني ابقى الى زمن
يسيء بي فيه كلب وهو محمود
ولا توهمت ان الناس قد فقدوا
وان مثل ابي البيضاء موجود
او قوله فيه :
أُرِيكَ الرضَا لَوْ أَخْفَتِ النَّفْسُ خَافِيًا
وَمَا أَنَا عَن نَفْسِي وَلَا عَنْكَ رَاضِيَا
أَمَيْنًا وَإِخْلَافًا وَغَدْرًا وَخِسَّةً وَجُبْنًا
أَشَخْصًا لُحْتَ لِي أَمْ مَخَازِيَا
تَظُن ابْتِسَامَاتِي رَجَاءً وَغِبْطَةً
وَمَا أَنَا إِلَّا ضَاحِكٌ مِنْ رَجَائِيَا
وكذلك كثرت الاخوانيات بما فيها المعاتبة بين الشعراء او غيرهم كقول ابي فراس الحمداني معاتبا :
لم اؤاخذك بالجفــــــاء لاني
واثق منك بالوفاء الصحيح
فجميل العدو غير جميـــــــل
وقبيح الصديـــــــق غير قبيح
وكذلك الحكمة والامثال وان كانت موجودة في الشعر العربي منذ عصر الجاهلية وافضل من قال فيها في هذا العصر واكثر المتنبي والمعري فالمتنبي يقول :
على قدر اهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
ومن اقوال ابي العلاء المعري:
أَمّا المَكانُ فَثابِتٌ لا يَنطَوي
لَكِن زَمانُكَ ذاهِبٌ لا يَثبُتُ
قالَ الغَوِيُّ لَقَد كَبَتُّ مُعانِدي
خَسِرَت يَداهُ بِأَيِّ أَمرٍ يَكبِتُ
وَالمَرءُ مِثلُ النارِ شَبَّت وَاِنتَهَت
فَخَبَت وَأَفلَحَ في الحَياةِ المُخبِتُ
وَحَوادِثُ الأَيّـــــامِ مِثلُ نَباتِها
تُرعى وَيَأمُرُها المَليكُ فَتَنبُتُ
وَإِذا الفَتى كانَ التُرابُ مَآلَهُ
فَعَلامَ تَســــــهَرُ أُمُّهُ وَتُرَبِّتُ
إِن كانَت الأَحبارُ تُعَظِّمُ سَبتَها
فَأَخو البَصيرَةِ كُلَّ يَومٍ مُسبِتُ
وكذلك قالوا في المطايبة والمفاكهة والهزل وفي كل امور الحياة اليومية ففنون الشعر هذا العصر كثيرة كثيرة .
ولو لاحظنا معاني الشعر في هذا العصر لوجدنا انها تطورت وتوسعت كثيرا الى حد لا يمكن حصره وتحديده بكلمات نكتبها عنه فمنها ما قيلت بحالة من الرقي والقوة والمتانة بعيدة عن الا بتذال والاسراف فكانت قصائد ذات معان راقية متطورة وخاصة تلك التي قيلت في المدح والفخر او تلك التي اختصت بالسياسة والاجتماع او التي قيلت في الرثاء والهجاء والغزل المحتشم . ومنها من اكثر في الاسراف الى حد الغلو في المجون والابتذال وبالكلمات الرخيصة وخاصة تلك القصائد التي قيلت في الغزل والمجون والغزل بالمذكر وما اليها والتي لم تكن معروفة لدى الشاعر العربي او كان يأنف ان يقول فيها قبل هذا العصر.
وكذلك ظهرت المعاني الفلسفية في الشعر فكانت في اغلب الاحوال معقدة وصعبة الفهم . الى جانب الشعر التعليمي وتأييد المعرفة او نشرها عن طريق الشعر .
وعلى العموم صارت ارضية المعاني الشعرية خصبة يتصرف بها الشاعر او ياتي بها على هواه وامتداد سعة ثقافته و خياله الذي حلّق في الافاق عند بعض الشعراء الخالدين . وكذلك ادخلت على الشعر الرموز الصوفية والفلسفية والاخلاقية وكانت بداية للرمزية في الشعر العربي وقد رقت معاني الشعر في الاغلب وكثرت فيه المحسـنا ت اللغويـة والبلاغية والتشبيهات المختلفة والصناعة الشعرية .لاحظ قول ابي فراس الحمداني :
لبسنا رداء الليل والليل راضع
الى ان تردى رأسه بمشيب
الى ان بدا وقت الصباح كانه
بادئ نصول في عذار خضيب
كل ذلك كان في اسلوبية شعرية اختلفت في هذا العصر لما اصابها من تقدم وتطور بحيث اصبح لكل شاعر اسلوبه الخاص او يكاد ان يكون هكذا فقد اختلفت الاساليب تبعا لنفسية الشاعر وحالته التي يعيشها و البيئة التي قا ل فيها الشعر بعد امتداد الدولة العربية من الصين شرقا حتى بلاد الاندلس والمغرب العربي غربا فالبيئة الشرقية في فارس وشرقيها اساليب الشعر فيها اختلفت عما هي عليه في مصر والشام وبلاد الاندلس او المغرب العربي كما اختلفت اساليب شعراء الجد عن اساليب شعراء الهزل .
فالشعراء الجادون اسلوبهم فيه القوة والمتانة وحسن اختيار اللفظ والديباجة على غرار الاساليب الشعرية في العصور التي قبل هذا العصر مع فارق التقدم والتطور الذي شمل اللغة العربية وادابها على ايدي هؤلاء الفحول مثل المتنبي والمعري والحمداني والشريف الرضي واسامة بن منقذ وغيرهم بينما امتاز الشعر الهزلي بسهولة اسلوبه وسطحية فكرته وادخال الشعراء بعض الالفاظ الفارسية والعامية فيه .ومن قول الشريف الرضي في الحكمة يقول :
كن في الانام بلا عين ولا اذن
او لا فعش ابد الايام مصدورا
والناس أسد تحامي عن فرائسها
اما عقرت واما كنت معقورا
الشعر عامة في نهايات هذا العصر غلبت عليه المحسنات اللفظية والبديعية وطغيان الصناعة اللفظية عند كثير من الشعراء فنجد الشاعر كانما ينحت نحتا في ايجاد الكلمة المناسبة واللفظة – صناعة شعرية – و اهتموا باللفظ على حساب المعنى وخاصة في شرق البلاد وفي بغداد وغيرها .
اما في الشام ومصر فقد ظل الشعر قويا متين البناء الا انه دخلته بعض الكلمات الغريبة والتعقيدات الكثيرة ودخلت اليه العلمية والفلسفة على ايدي بعض الشعراء كالمعري مثلا الا انه ساير التقدم الحضاري ولم يتوقف .
كما ظهر التجديد فغلبت على الشعر الرقة والنعومة والسلاسة عند كثير من الشعراء بل اغلبهم وقد ظهر شعراء الموشح والزجل والمواليا حتى ان بعض الشعراء من ادخل اللهجات الدارجة او العامية في الشعر مع المحافظة على بيان وروعة وبلاغة العربية كل حسب مقدرته وكفاءته الادبية وثقافته اللغوية .
وينفرد الشاعر ابو العلاء المعري بقوة اسلوبه وغزارة شعره واهتمامه به بين المثالية والشعرية والفلسفة لذا يعد افضل شعراء هذا العصر مع الاشادة بالشعراء الاخرين مثل الشريف الرضي وسعد التميمي والحصري والصنهاجي واسامة بن منقذ واحمد التيفاشي وغيرهم كثير .
***************************************
تم الجزء الاول من كتابي :
ملامح التجديد في الشعرالعربي