الشـــــعرالعربي والحـــداثة
نقصد بالشعرالعربي الحديث كل شعر كتب في العصر الحديث. وصفة (الحداثة ) يُقصد بها الإطار الزمني المتسم بمعالم الحياة الحد اثوية ومميزاتها عن الأزمنة السابقة التي قيل فيها الشعرالعربي . ويتمثل بالوقت الحاضر بالحلقة ما قبل الاخيرة من السلسلة الزمنية للادب العربي بما في ذلك الشعر .
فالشعر ظاهرة فنية ، صاحب الحياة الانسانية منذ فترة مبكرة من تاريخها، وستستمر معها إلى ما شاء الله و الشعرالعربي كاي شعر من الامم السابقة والحالية لا يخرج عن قانون التطور أياً كان زمانه ومكانه، ولا يمكن أن يتوقف دون تطور ودون أن يساير الزمن والتقدم الحادث فيه فيقوى عوده وتتصلب شرايينه وتثبت نبضات الحياة فيه .
فالتطور نحو الأفضل- من مجريات الامور ويعتبر خط الشروع نحو الاسمى ويمثله خيط دقيق من الرقي والثقافة منذ بدء ظهوره حتى يمتد فيه طوال وجوده ، وقد يدق ويرق في عصر من العصور حتى لا يرى منه إلا أثر بسيط، ولكنه لا يغيب نهائياً، والشعر العربي -مهما قيل عن ثباته وتطوره- لا يخرج عن هذه الحقيقة.
وقد أدرك شعراء العربية هذه الحقيقة وكان بعض الشعراء واعياً يحس نبض التقدم والرقي في شعره، وكذلك فهم هذا الامر النقاد وراواد الادب العربي ورصدوا هذه الحالات بمقاييس نقدية ساروا عليها، واصبحت اهم قضايا النقد واتخذها بعضهم مقياساً في تقويم النظم في الشعر وتبيان الاسمى والافضل .
ثم تطورت هذه الامور بتطور الزمن الحادث . وفي العصر الحديث تطورت قضية الحداثة وتطور مفهومها واضحت اساسا في ما تصبو اليه الاتجاهات الشعرية الجديدة تمهيداً لرصدها ومجاراتها في العصر الحديث، والوقوف على بصماتها في الحركات الشعرية الاحدث وتطورها مع الزمن في ضوء هذه المستجدات .
اعتمد مؤرخو الأدب العربي على تصنيف الشعر العربي بحسب فترات زمنية متفاوتة تتسم بمواكبة العهود الزمنية السياسية للحكومات المتتالية والمتعاقبة كل بحسب عصره. وربما صنف ايضا بحسب الأمصار او الاماكن او البلد الذي قيل فيه..
ان كثيرا مما كتبه الشعراء في هذا العصر والذي قبله كان على غير منهاج الشعر التقليدي او الكلاسيكي واقصد به الشعر الحر او شعرالتفعيلة وقد ظهرهذا النوع من الشعر في الأدب العربي في النصف الأول من القرن العشرين، على يد الشعراء :امين الريحاني وصلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب و نازك الملائكة وفدوى طوقان وشعراء المهجر من الشعراء العرب في عدد من بلدان أوروبا وامريكا التي قصدوها للاستقرار فيها، وخاصة إيطاليا وفرنسا وبريطانيا ثم الولايات الأمريكية والبرازيل . وكان من أبرزهذه الاختلافات التي أثارها هذا الاتجاه هو ما اثاروه حول الأصالة والحداثة على مدى عقود . فابتداءا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى الان يتجاذب الادباء و الشعراء والنقاد ومؤرخو الادب العربي الاتهامات حول الأصالة والحداثة من خلال ايجاد المدارس الشعرية المختلفة ثم اضيفت تجاذبات أخرى بينهم حول التقليدية والحداثة والمعاصرة .
وفي رايي الخاص ان هذه الامور هي التي اعاقت الشعرالعربي من التطور والالتحاق بالشعرالعالمي وهذا ما تؤكده أرقام مبيعات كتب الشعر التي صدرت خلال السنوات الأخيرة، إضافة إلى ضعف مستوى النتاج الشعري لدى كثير من الشعراء وتكاثر أدعياء الشعر وظهورأعداد كبيرة من الكتب الدواوين المطبوعة ذات قيمة فنية هابطة محسوبة على الشعر وهي لا تعني منه شيئا .
وحالة اخرى ارى انها اضعفت من نتاج الشعر العربي هو التقدم العلمي وانصراف الناشئة والطلبة وخريجي الجامعات إلى متابعة العلوم الحديثة في ظل الحركة الاقتصادية الهامة واتجاههم الى سوق العمل طلبا للمعاش وبما يحقق لهم مستوى معاشي افضل فأدى هذا الى بعض جمود في أفق الشعراء، وإلى إضعاف تأثير التجارب القليلة الجيدة التي لا يمكن إنكار ظهورها في حركة الشعر والثقافة العربية ككل .
ومراحل تطور الشعر العربي هو أنّ الشعر القديم يختلفُ في بعض جوانبه عن الشعر المقال في الوقت الحاضر، وأهمّ ما يميّز الشعر القديم حِرصهِ على الوزن والقافية ونظم البيت على الصدر والعَجز، وكان كل شعر لا يتم نظمه على الوزن والقافية لا يعتبرُ شِعراً بل يعتبرونه نثرا أو فصاحة فِي العصر الحديث، فالشعر القديم يؤخذ عليه انه يعتبرونه رافدا من روافد الامتاعِ والمؤانسة والنفعِ الحسي ينقل مشاعر الشاعر الى المتلقي ويعتبرُ مصدرَ طرب لدى العرب ويدعو إلى التحلّي بالأخلاقِ الكريمة والفضائل القيمة والنفورِ منَ الصفات السيئة غير الحميدة .
وقد اعتدنا ان نرى في الشعر الحديث تصنيفين اساسيين هما:
1- الشعر العمودي : والمقصود به كل شعرعربي كتب قبل عصرالنهضة العربية الحديثة وربما قصد به بعضهم كل شعر كتب على نمط شعر قصيدة العمود القديمة والتي وجدت في الشعرالعربي منذ عصرالجاهلية وحتى هذا العصر المعاصر او حتى هذا اليوم .وهذا ما اراه تجاوزا على كثير من الشعراء الذين لا يزالون يكتبون الشعرالتقليدي او الشعر العمودي وهو ما اسموه بالشعرالتقليدي او( التقييدي) عند البعض الاخر لانهم يعتبرونه مقيد بالوزن والقافية كما يسمى بالشعر العمودي نسبة إلى نوعية نسق كتابة هذا الشعر باستخدام الشطر والعجز في التنظيم النمطي لكتابته مع العلم ان اغلب الشعرالعربي هو من هذا الشعر وتعتبر قصيدة العمود اساسا للشعرالعربي قديما وحديثا ولا تزال وستبقى ما دام كثير من الشعراء العرب يكتبونها ...ومن قصيدة العمود هذه الابيات لامير الشعراء احمد شوقي بك في نكبة دمشق يقول :
دَمُ الثُوّارِ تَعرِفُهُ فَرَنسا وَتَعلَمُ أَنَّهُ نورٌ وَحَقُّ
بِلادٌ ماتَ فِتيَتُها لِتَحيا وَزالوا دونَ قَومِهِمُ لِيَبقوا
وَحُرِّرَتِ الشُعوبُ عَلى قَناها فَكَيفَ عَلى قَناها تُستَرَقُّ
رُباعُ الخلدِ وَيحَكِ ما دَهاها أَحَقٌّ أَنَّها دَرَسَت أَحَقُّ؟
إِذا عَصَفَ الحَديدُ احمَرَّ أُفقٌ عَلى جَنَباتِهِ وَاسوَدَّ أُفقُ
سَلي مَن راعَ غيدَكِ بَعدَ وَهنٍ أَبَينَ فُؤادِهِ وَالصَخرِ فَرقُ *
2- الشعر الحر او ( شعر التفعيلة ) وهو ما استحدثه جماعة من شعراء الحداثة منهم بدر شاكرالسياب ونازك الملائكة وعبد الهادي البياتي وصلاح عبد الصبور وفدوى طوقان وغيرهم كثيرمن الشعراء في اغلب الاقطارالعربية وخاصة مصر وسوريا ولبنان والعراق ..ومن الشعرالحر هذه المقاطع للشاعرة فدوى طوقان * من فلسطين : .
كفاني أموت عليها وأدفن فيها
وتحت ثراها أذوب وأفنى
وأبعث عشبًا على أرضها
وأبعث زهرة إليها
تعبث بها كف طفل نمته بلادي
كفاني أظل بحضن بلادي
ترابًا، وعشبًا، وزهرة. ...
وقد وجد الاستحداث والتغيير في الشعرالعربي منذ العصر العباسي حيث تطلب ايجاد انواع من الشعر قريبة من الاصل في الوزن او الموسيقى وكذلك في المعنى والاسلوب لكنها اسهل في استخدام الغناء واللحن فاستحدثت الوان من الشعر عبر قرون من الزمن . وانهكت البحور او اختزلت الى النصف وسمي المشطور واستمر التغيير او ايجاد انواع من الشعر وفق الفترات الزمنية ومتطلبات الحياة ومتغييراتها ومنها مايلي :
1- الدوبيت :
ويعني البيت المزدوج او البيت المشطور الى اثنين ينظم بيتين بيتين من الشعرفي قافية واحدة ويعد من المربعات ايضا , و شعر الدوبيت ظهر في القرن الثاني الهجري – لدى بعض المتصوفة والزهاد ثم انتشرت ويعد تطورها ونضجها وانتشار الرباعيات التي نظمت في العربية كانت لأبي العباس (الباخرزي) * وهو من شيوخ الحاكم النيسابوري، المتوفي سنة 405هـجرية .
ومن رباعياته يقول في احداها :
قد صيرني الهوى أسير الذلة
واستأصل هجره بصبري كله
واستنهكني وما بجسميَ عِلّة
لا حــــــــول ولا قـــــوة إلا بالله
ومن ثم انتشر او كتب فيه الشاعر بهاء الدين زهير ونصير الدين الطوسي وجلال الدين الرومي الذي كان له الفضل في إيصالها إلى بلاد الروم، ومنهم سعد الدينر بن عمر وكذلك الشاعرالفارسي عمرالخيام ورباعياته المشهورة الجميلة وهو صاحب ( رباعيات الخيام) المشهورة. والرباعيات هي عبارة عن مقطوعات متكونة من أربعة أشطار، الشطر الثالث مطلق بينما الثلاثة الأخرى مقيدة، وهي تعرف باسم الدوبيت بالفارسية، وقد نظمها عمر الخيام بالفارسية رغم أنه كان يستطيع صياغتها بالعربية لكنه نظمها بالفارسية انتصارا للغته الاصلية التي بدت باستعادة موقعها بين اللغات بعد كادت تضمحل او تلاشت في اللغة العربية .
كان في أوقات فراغه يتغنى برباعياته في خلوته، وقد نشرها عنه من سمعها من أصدقائه، وبعد عدة ترجمات وصلت لنا كما نعرفها الآن. ويرى البعض أنها تنادي إلى التمتع بالحياة والدعوة إلى الرضا أكثر من الدعوة إلى التهكم واليأس، وهذه وجهة نظر معينة ، وقد يكون السبب في ذلك كثرة الترجمات التي تعرضت لها هذه الرباعيات، بالإضافة إلى الإضافات، بعد أن ضاع أغلبها.
ومن جهة أخرى هناك اختلاف على كون الرباعيات تخص عمر الخيام* فعلا، فهي قد تدعو بجملتها إلى اللهو واغتنام فرص الحياة الفانية، إلا أن المتتبع لحياة الشاعر عمر الخيام يرى أنه عالم جليل وذو أخلاق سامية، لذلك اعتبر بعض المؤرخين أن الرباعيات نسبت اليه بطريق الخطأ ومن الرباعيات الابيات الرائعة التالية التي ترجمها للعربية الشاعر احمد رامي حديثا انقلها كما حفظتها :
سمــعت صـوتا هاتــفا فى السحـــر
نادى من الغــــيب غفاة البشـــــــر
هبوا املأوا كــأس المــــنى قبل أن
تملأ كأس العـــمر كف القــــــــدر
****************
لا تشـــغل الـــــبال بماضى الزمان
ولا بـــــآت العيش قبـــــــل الأوان
واغنم من الحـــــاضـــر لــــــــذاته
فلـــيس فى طبع الليالى الأمــــــــان
*********************
.
غد بظـــهر الغـــيب والــــيوم لــى
وكم يخيب الظـــــــن فى المقــــبل
ولســــــت بالغافـــل حـــــتى أرى
جمــــــــال دنـــــــياى ولا أجتـــــلى
*******************
القـــلب قـــد أضناه عشق الجــمال
والصدر قد ضــــــاق بما لا يقــال
يـــــارب هل يرضـــيك هذا الظما
والماء يــــــنساب أمــــامى زلال
***************************
أولى بهذا القـــلب أن يخفــــــــــق
وفى ضـــرام الحــــب أن يحــــرق
ما أضيع الـــيوم الذى مـــر بــــى
من غير أن أهوى وأن أعـشـــــق
********************
أفـــق خفـــيف الــظل هذا السـحر
نادى دع الـــــــنوم وناغ الوتـــــر
فــــما أطـــال الـنوم عـــــمرا ولا
قصر فى الأعمار طول الســــــهر
************************
فـــــكم تــوالى اللــــيل بعد النهـار
وطال بالأنــــــــجم هذا المــــــدار
فامش الهـــوينا ان هـــــــذا الثرى
من أعين ساحـــــرة الإحـــــــورار
*******************
لا توحش النــــفس بخوف الظنون
واغنم من الحاضر أمن اليقيــــــن
فقد تســـاوى فى الثرى راحل غدا
وماض من الــــوف الســـــــنين
*********************
أطفىء لظى القلب بشهد الرضاب
فإنما الايـــــــام مثل الســــــحاب
وعــــيشنا طيف خيال فنل حظك
مــــــنه قبل فـــــوت الشــــــباب
*************************
لبست ثوب العيش لم استشـــــــر
وحــــــرت فيه بين شتى الفــــــكر
وسوف انــــضو الثوب عنى ولم
ادرك لمــــــاذا جئت اين المفـــــر
*************************
يا من يحـــــــار الفهم فى قدرتك
وتطلب النفس حــــمى طاعـــتك
اســــكرنى الإثـــــــــــــم ولكننى
صـــحوت بالآمال فى رحمتـــــك
******************
إن لم أكن اخلصـــت فى طاعتك
فإننى أطمــــع فى رحمــــــــــتك
وانمــــــــــا يشـــــفع لى اننى قد
عـــــشت لا أشرك فى وحدتـــــك
********************
تخفى عن الـــــناس سنى طلعتك
وكل ما فى الـكون من صنعتـــــك
فأنت محـــلاه وأنت الــــــــــذى
تـــرى بديــع الصنع فى آيــتك
************************
ياعالم الأســـــــرار علم الـــيقين
ياكاشف الضر عن البــــائسيــــن
ياقابل الأعـــــذار عدنـــا الى ظلك
فاقـــــــبل توبـــــة التائبيـــــــــن
************************
وكذلك نظام الدين الاصفهاني الذي نظم ديوانًا في الدوبيت يتضمن ألف بيت من هذه الرباعيات .وكذلك كتب فيها الشاعر صفي الدين الحلي* والذي يقول في احدى رباعياته :
العيد أتـــى ومن تعشقت بعــــــــــــيد
ما العيش كذا لكن من عاش رغيد
ما اصنع بعد! منية القلب بعيد
من غازل غزلانا أو عاشر غيد
وعلى العموم فالرباعية أو الدوبيت قالب شعري مستحدث مؤلف من أربعة مصاريع يسمى رباعية لكنه يمثل ايضا بيتين من الشعر لذا سمي بالدوبيت بحسب مايقال له بالفارسية . يراعي في المصراع الأول والثاني والرابع انتهاءه بقافية واحدة والثالث ربما يكون بقافية اخرى او بنفس القافية .
ويقول الشاعر سلطان العاشقين شرف الدين بن الفارض*:
نفسي لك زائرًا وفي الهجر فدا
إن كان فراقنا مع الصبح بًدا
يا مؤنس وحدتي إذا اليل هَدا
لا اسفرَ بعد ذاكَ صبحٌ ابــــــدا
فتكون قافيته في الرباعية واحدة ويمكن ان تكون الثالثة على غير قافية وتسمى ( العرجاء ) مثال ذلك قول ابن الفارض اعلاه :
أهوى رشأ ليَ الأسى قد بعثا
مذ عاينــه تصبري ما لبثا
ناديت وقد فكرت في خلقته
سبحانك ما خلقت هذا عبثا
وقد انتشر مؤخرا في السودان وهو ضرب شعري غنائي اشتهر به ابناء المناطق الزراعية في السودان ومنه هذه الرباعية :
الناس العلي الساحر بشقّوا الصيّ
أمسوا الليلة فوق راياً نجيض ما نيّ
ناس أب ترمة جاموس النحاس أب ديّ
عقدوا الشورة ميعادهم جبال كربيّ
وربما جاء على شطر البيت الشعري وبنفس الامور اعلاه فيكون بيتين بيتين وهذا ما اكتسب التسمية من الفارسية اذ يقولون دوبيت لكل بيتين .
.