احمد شوقي بيك
( امير الشعراء)
هو احمد بن علي بن شوقي، المعروف بأمير الشعراء.
ولد في القاهرة سنة \1868 وترعرع في ظلّ البيت المالك، لأن جدتّه لأمّه كانت من وصيفات القصر في عهد الخديوي اسماعيل.
تلقّى علومه الأولية في مكتب الشيخ صالح، تُمَّ انتقل إلى مدرسة (المبتديان) وبعدها إلى المدرسة التجهيزية . تخرّج بعد ذلك من مدرسة الحقوق، ونال شهادته من فرع الترجمة .
أعطاه الخديوي منحة دراسيّة ليتابع دروس الحقوق في فرنسا. فتوجّه الى( مونبوليه) في فرنسا حيث التحق بجامعتها لمدّة سنتين، ثم اكمل دراسة الحقوق في باريس بسنتين أخريين. ظلّ يرسل من باريس قصائد المديح في المناسبات لجناب الباب العالي .
عاد الى مصر سنة 1892 ودخل في معيّة الخديوي عبّاس حلمي، وانقطع اليه والى نظم الشعر ونال حظوة كبيرة .
في سنة 1914، اي اثناء قيام الحرب العالمية الاولى وبعد أن خلعت انكلترا الخديوي (عبّاس حلمي ) بسبب ميله الى الأتراك المتحالفين مع ألمانيا ضد دول الحلفاء بقيادة انكلترا ، طلبت الى شوقي ، شاعر البلاط الخديوي ، ان يترك مصر وأن يختار منفاه بنفسه، فاختار اسبانيا وسافر اليها سنة 1915.
بعد انتهاء الحرب عاد شوقي الى وطنه في أواخر سنة 1919 فوجد وجه مصر قد تغيّر في ظل الاحتلال الانكليزي ، فسارع الى التكيّف مع الوضع الجديد، فتوجّه في شعره نحو الشعب وقضاياه، فبايعه الشعراء العرب امارة الشعر سنة 1927 في أثناء حفلة تكريميّة برعاية الحكومة المصريّة. . وهكذا صار للشعر اميرا فكان شوقي اول امير لهم .
منح الله شوقي موهبة شعرية فذة، وبديهة سيالة، فلا يجد عناء في نظم القصيدة، كانت المعاني تنثال عليه انثيالاً وكأنها المطر الهطول، يغمغم بالشعر ماشيًا أو جالسًا بين أصحابه، حاضرًا بينهم بشخصه غائبًا عنهم بفكره؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية؛ إذ بلغ نتاجه الشعري ما يتجاوز ثلاثة وعشرين ألف بيت وخمسمائة بيت، ولعل هذا الرقم لم يبلغه شاعر عربي قديم أو حديث.
وكان شوقي مثقفًا ثقافة متنوعة الجوانب، فقد انكب على قراءة الشعر العربي في عصور ازدهاره، وصحب كبار شعرائه، وأدام النظر في مطالعة كتب اللغة والأدب والشعر، وكان ذا حافظة لاقطة لا تجد عناء في استظهار ما تقرأ؛ حتى قيل بأنه كان يحفظ أبوابًا كاملة من بعض المعاجم وكان مغرمًا بالتاريخ يشهد على ذلك قصائده التي لا تخلو من إشارات تاريخية لا يعرفها إلا المتعمقون في دراسة التاريخ، وتدل رائعته الكبرى (كبار الحوادث في وادي النيل) التي نظمها وهو في شرخ الشباب على تبصره بالتاريخ قديمه وحديثه.
وفي الفترة التي قضاها شوقي في المنفى في إسبانيا تعلم لغتها، وأنفق وقته في قراءة كتب التاريخ، خاصة تاريخ الأندلس والفتح العربي لها، وعكف على قراءة عيون الأدب العربي قراءة متأنية، وزار آثار المسلمين وحضارتهم في إشبيلية وقرطبة وغرناطة.
وأثمرت هذه القراءات أن نظم شوقي أرجوزته ( دول العرب وعظماء الإسلام ) وهي تضم 1400 بيت موزعة على (24) قصيدة، تحكي تاريخ المسلمين منذ عهد النبوة والخلافة الراشدة، على أنها رغم ضخامتها أقرب إلى الشعر التعليمي، وقد نُشرت بعد وفاته.
وفي المنفى اشتد به الحنين إلى الوطن وطال به الاشتياق حتى ملك عليه جوارحه وأنفاسه. ولم يجد من سلوى سوى شعره يبثه لواعج نفسه وخطرات قلبه، وظفر الشعر العربي بقصائد تعد من روائع الشعرالعربي صدقًا في العاطفة وجمالاً في التصوير، لعل أشهرها قصيدته التي بعنوان (الرحلة إلى الأندلس) وهي معارضة لقصيدة البحتري التي يصف فيها إيوان كسرى، يقول :
صنت نفسي عما يدنس نفسي
وترفعت عن جدا ر كل جبس
وقد بلغت قصيدة شوقي (110) أبيات تحدّث فيها عن مصر ومعالمها، وبثَّ حنينه وشوقه إلى رؤيتها، كما تناول الأندلس وآثارها الخالدة وزوال حكم المسلمين منها، ومن أبيات هذه القصيدة التي تعبر عن ذروة حنينه إلى مصر قوله:
حرام على بلابله الدوح
حلا ل للطير من كل جنس
وطني لوشغلت بالخلد عنه
نازعتني اليه في الخلد نفسي
شهد الله لم يغب عن جفوني
شخصه ساعة ولم يخل حسي
عاد شوقي إلى الوطن في سنة (1339هـ = 1920م)، واستقبله الشعب استقبالاً رائعًا واحتشد الآلاف لتحيته، وكان على رأس مستقبليه الشاعر الكبير (حافظ إبراهيم)، وجاءت عودته بعد أن قويت الحركة الوطنية واشتد عودها بعد ثورة 1919م، وتخضبت أرض الوطن بدماء الشهداء، فمال شوقي إلى جانب الشعب، وتغنَّى في شعره بعواطف قومه وعبّرعن آمالهم في التحرر والاستقلال ودعى الى النظام النيابي والتعليم، ولم يترك مناسبة وطنية إلا سجّل فيها مشاعره للوطن وما يجيش في صدور أبنائه من آمال.
لقد انقطعت علاقته بالقصر الحاكم واسترد الطائر المغرد حريته، وخرج من القفص الذهبي، وأصبح شاعر الشعب الابي وترجمانه الأمين، فحين يرى زعماء الأحزاب وصحفها يتناحرون فيما بينهم، والمحتل الإنجليزي لا يزال جاثم على صدر الوطن، فعاد يهتف فيهم قائلاً:
الام الخلف بينكم الاما
وهذي الضجة الكبرى علاما
وفيم يكيد بعضكم لبعض
ر وتبدون العداوة والخصاما
واين الفوز لامصر استقرت
على حال ولا السودان داما
ورأى في التاريخ الفرعوني وأمجاده ما يثير أبناء الشعب ويدفعهم إلى الأمام والتحرر، فنظم قصائد عن النيل والأهرام وأبي الهول. ولما اكتشفت مقبرة (توت عنخ أمون )وقف العالم مندهشًا أمام آثارها المبهرة، ورأى شوقي في ذلك فرصة للتغني بأمجاد مصر؛ حتى يُحرِّك في النفوس الأمل ويدفعها إلى الرقي والطموح، فنظم قصيدة رائعة مطلعها:
قفي يااخت يوشع خبرينا
احاديث القرون الغابرينا
وقصي من مصارعهم علينا
ومن دولاتهم ما تعلمينا
وامتد شعر شوقي بأجنحته ليعبر عن آمال العرب وقضاياهم ومعاركهم ضد المستعمر، فنظم في (نكبة دمشق ) وفي (نكبة بيروت) وفي ذكرى استقلال سوريا وذكرى شهدائها، ومن أبدع شعره قصيدته في (نكبة دمشق ) التي سجّل فيها أحداث الثورة التي اشتعلت في دمشق ضد الاحتلال الفرنسي،
ومنها هذه الابيات :
بني سورية اطرحوا الاماني
وألقوا عنكم الاحلام ألقوا
وللاوطان في دم كل حر
يد سلفت ودين مستحق
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة يدق
دَمُ الثُوّارِ تَعرِفُهُ فَرَنسا
وَتَعلَمُ أَنَّهُ نورٌ وَحَقُّ
بِلادٌ ماتَ فِتيَتُها لِتَحيا
وَزالوا دونَ قَومِهِمُ لِيَبقوا
وَحُرِّرَتِ الشُعوبُ عَلى قَناها
فَكَيفَ عَلى قَناها تُستَرَقُّ
رُباعُ الخلدِ وَيحَكِ ما دَهاها
أ َحَقٌّ أَنَّها دَرَسَت أَحَقُّ ؟؟
إِذا عَصَفَ الحَديدُ احمَرَّ أُفقٌ
عَلى جَنَباتِهِ وَاسوَدَّ أُفقُ
سَلي مَن راعَ غيدَكِ بَعدَ وَهنٍ
أَبَينَ فُؤادِهِ وَالصَخرِ فَرقُ
ولم تشغله قضايا وطنه عن متابعة أخبار دولة الخلافة العثمانية، او دولة الخلافة الاسلامية في هذا العالم الواسع فقد كان لها محبًا عن شعور صادق وإيمان جازم بأهميتها في حفظ رابطة العالم الإسلامي، وتقوية الأواصر بين شعوبه، حتى إذا أعلن( مصطفى كمال أتاتورك) إلغاء الخلافة الاسلامية في تركيا واعلنها (جمهورية تركيا ) سنة 1924 وقع الخبر عليه كالصاعقة رثى الخلافة الاسلامية الزائلة رثاءً صادقًا في قصيدة مبكية حزينة تفتت الكبد الحر الحريص على الاسلام والدين الاسلامي يقول :
عادت اغاني العرس رجع نواح
ونعيت بين معالم الافراح
كفنت في ليل الزفاف بثوبه
ودفنت عند تبلج الاصباح
ضجت عليك ماذن ومنابر
وبكت عليك ممالك ونواح
أصبح شوقي بعد عودته من المنفى شاعر الأمة المُعبر عن قضاياها، لا تفوته مناسبة وطنية إلا شارك فيها بشعره، وقابلته الأمة بكل تقدير وأنزلته المنزلة العالية، وبايعه شعراؤها بإمارة الشعر سنة (1346هـ = 1927م) في حفل أقيم بدار الأوبرا المصرية في القاهرة بمناسبة اختياره عضوًا في مجلس الشيوخ، وقيامه بإعادة طبع ديوانه (الشوقيات ). وقد حضر الحفل وفود من أدباء العالم العربي وشعرائه،
وأعلن في هذا الحفل الشاعر حافظ إبراهيم باسمه ونيابة عن كل الشعراء والادباء العرب الحاضرين مبايعتهم لاحمد شوقي بإمارة الشعر قائلاً:
بلابل وادي النيل بالشرق اسجعي
بشعر امير الدولتين ورجعي
اعيدي الاسماع ما غردت به
براعة شوقي في ابتداء ومقطع
امير القوافي قد ا تيتُ مبايعا
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
وبهذا اصبح شوقي اميرا للشعراء ولم يكن لهم ا مير قبل ذلك .
وأنتج فى أخريات سنوات حياته مسرحياته الشعرية وقد استمد اثنتين منها من التاريخ المصري القديم، وهما( مصرع كليوباترا) و ( قمبيز)
ومسرحية اخرى من التاريخ الإسلامي هي( مجنون ليلى)، وأخرى من التاريخ العربي القديم هي (عنترة ). وأخرى من التاريخ المصري العثماني وهي ( علي بك الكبير)، وله مسرحية نثرية هي(أميرة الأندلس )
ومسرحيتان هزليتان، هما الست هدي)، و(البخيلة ) .
ولأمر غير معلوم كتب مسرحية( أميرة الأندلس) نثرًا، مع أن بطلها أو أحد أبطالها البارزين هو الشاعر المعتمد بن عباد.
وقد غلب الطابع الغنائي والأخلاقي على مسرحياته، وضعف الطابع الدرامي، وكانت الحركة المسرحية بطيئة لشدة طول أجزاء كثيرة من الحوار، غير أن هذه المآخذ لا تُفقِد مسرحيات شوقي قيمتها الشعرية الغنائية ، ولا تنفي عنها كونها ركيزة الشعر الدرامي في الأدب العربي الحديث.
وكان الشعرالعربي مع القدر في انتظار من يعيد اليه الحياة فكان الشاعرالبارودي كما اسلفت في هذا الكتاب . ولم يشأ الله تعالى أن يكون البارودي هو وحده فارس الحلبة ونجم عصره- وإن كان له فضل السبق والريادة- فلقيت روحه الشعرية الوثابة نفوسًا تعلقت بها، فملأت الدنيا شعرًا بكوكبة من الشعراء من أمثال: إسماعيل صبري، وحافظ إبراهيم، وأحمد محرم، وأحمد نسيم، وأحمد الكاشف، وعبد الحليم المصري من مصر والكاظمي والزهاوي والرصافي في العراق وناصيف اليازجي واولاده في الشام وابوالقاسم الشابي في تونس وغيرهم كثير وفيهم شعراء عرب من المهجر وكان أحمد شوقي هو نجم هذه الكوكبة وأميرها بلا منازع عن رضى واختيار، فقد ملأ الدنيا بشعره، وشغل الناس، وأشجى القلوب.
ظل شوقي محل تقدير الناس وموضع إعجابهم ولسان حالهم، حتى إن الموت فاجأه بعد فراغه من نظم قصيدة طويلة يحيي بها مشروع القرش الذي نهض به شباب مصر، فتوفاه الاجل في الثالث عشر من جمادى الآخرة 1351 هجرية / 14 أكتوبر 1932ميلادية .
نظم شوقي العديد من القصائد في مدح الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) تعتبر من أبدع شعره ومن أشهر قصائده نهج البردة التي عارض فيها البوصيري في بردته ومنها يقول:
رزقتَ أسمح ما فــي الناس مــن خُلق
إذا رزقــت التماس العـــذر في الشيم
يا لائمي فــي هـــواه والهوى قــدرٌ
لـــو شفّك الوجدُ لـــم تعــذل ولــم تلم
لقـــد أنلتـــــك أُذناً غيــــر واعيــــــــةٍ
وربَّ منتصتٍ والقلـــبُ فـــي صمــم
وتعتبر قصائد ( ولد الهدى وسلوا قلبي و نهج البردة) من أهم القصائد الإسلامية لشوقي، وتقع قصيدة( ولد الهدي) في مائة وواحد وثلاثين بيتًا، اختارت منها المطربة الشهيرة أم كلثوم أربعة وثلاثين بيتًا، وأعادت ترتيبها على غير ترتيبها في الديوان وغنتها فكانت بداعة في الاداء والشعر المغنى من ألحان رياض السنباطي ومنها:
وُلِدَ الهُدى فَالكائِناتُ ضِياءُ
وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ
الروحُ وَالمَلَأُ المَلائِكُ حَولَهُ
لِلدينِ وَالدُنيا بِهِ بُشَراءُ
وَالعَرشُ يَزهو وَالحَظيرَةُ تَزدَهي
وَالمُنتَهى وَالسِدرَةُ العَصماءُ
وَحَديقَةُ الفُرقانِ ضاحِكَةُ الرُبا
بِالتُرجُمانِ شَذِيَّةٌ غَنّاءُ
وَالوَحيُ يَقطُرُ سَلسَلًا مِن سَلسَلٍ
وَاللَوحُ وَالقَلَمُ البَديعُ رُواءُ
نُظِمَت أَسامي الرُسلِ فَهيَ صَحيفَةٌ
في اللَوحِ وَاسمُ مُحَمَّدٍ طُغَراءُ
اسمُ الجَلالَةِ في بَديعِ حُروفِهِ
أَلِفٌ هُنالِكَ وَاسمُ طَهَ الباءُ
ومن قصائده التي يرد فيها على مزاعم المستشرقين الذين يدعون أن الإسلام انتشر بحد السيف يقول:
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا
لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة
فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
كان شوقي عاشقا للموسيقي والغناء وقد احتضن الموسيقار محمد عبد الوهاب يقول عنه:
( كان له الفضل في التحاقي بمعهد الموسيقي الشرقية وتقديمي إلي القادة والزعماء وأحاطني بعنايته وخصص لي مدرساً يعلمني الفرنسية وأخذني إلي باريس لأذهب إلي الاوبرا والمتاحف ليطلعني علي الفن الحقيقي.وقال لي :
- ارجوك يا محمد آلا تهمل شعري بعد أن أموت .. تغني قصائدي .. فخلودي في أن يردد الشعب شعري .. وأنت كفيل بأن تجعل الشعب يردده.)
وذات يوم وجه شوقي دعوة لأم كلثوم التي لبت الدعوة وقامت بالغناء في (كرمة ابن هانىء ) ومن اعجابه بالغناء قدم لها كأسا من الخمر ولكنها لم تكن تشرب الخمر فتصرفت بلباقة وذكاء ورفعته الي شفتيها فقط دون أن ترتشف منه شئا وقد اعجب شوقي بلباقتها فكتب لها قصيدة - يقال أوصلها بنفسه في الصباح التالي - وقد ظلت القصيدة منذ عام 1932م إلي عام 1944 حيث عهدت بها ام كلثوم الى الملحن رياض السنباطي لتلحينها وغنتها بعد أن تم تغيير كلمات بيتين ورد فيهما اسم أم كلثوم ، يقول شوقي في مطلع هذه القصيدة :
سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها
واستخبروا الراح هل مست ثناياها
احمد شوقي كان ذا حس لغوي مرهف وفطرة موسيقية بارعة في اختيار الألفاظ التي تتألف مع بعضها لتحدث النغم الذي يثير الطرب ويجذب الأسماع، فجاء شعره لحنًا صافيًا ونغمًا رائعًا لم تعرفه العربية إلا لقلة قليلة من فحول الشعراء.
وإلى جانب ثقافته العربية كان متقنًا للفرنسية التي مكنته من الاطلاع على آدابها والنهل من فنونها والتأثر بشعرائها، وهذا ما ظهر في بعض نتاجه وما استحدثه في العربية من كتابة المسرحية الشعرية لأول مرة.
وقد نظم الشعر العربي في كل أغراضه من مديح ورثاء وغزل، ووصف وحكمة، وله في ذلك أوابد رائعة ترفعه إلى قمة الشعر العربي، وله آثار نثرية كتبها في مطلع حياته الأدبية، مثل: (عذراء الهند)، ورواية ( لادياس)، و( ورقة الآس)، و( أسواق الذهب) ، وقد حاكى فيها كتاب ( أطواق الذهب ) للزمخشري، وما يشيع فيه من وعظ في عبارات مسجوعة. ومن جميل قصائده في الغزل يقول :
خَدَعُـوهَـا بِقَـوْلِهِـمْ حَسْنـاءُ
والغَـوَانِي يَـغُـرَّهُـنَّ الـثَّنَـاءُ
أَتُـرَاهَا تَنَـاسَـتِ اسْمِـيَ لَمَّـا
كَثُـرَتْ فِـي غَرامِهَـا الاسْمـاءُ
إنْ رَأتْنِي تَمِيـلُ عَنَّي ، كَأنْ لَـمْ
تَـكُ بَيْنِـي وَبَيْنِهَـا أشْـيــاءُ
نَظْـرَةٌ ، فَـابْتِسَـامَةٌ ، فَسَـلامُ
فَكَـلامٌ ، فَـمَـوْعِـدٌ ، فَلِقَـاءُ
يَوْمَ كُنَّا وَلا تَسَـلْ كَيْـفَ كُنَّـا
نَتَهَـادَى مِنَ الـهَوَى مَا نَشـاءُ
وَعَليْنَـا مِـنَ العَفَـافِ رَقِيْـبُ
تَعِبَـتْ فِـي مِـرَاسِـهِ الاهْـوَاءُ
جَاذَبَتْنـي ثَوبِي العَصـيِّ وقَالَـتْ
أَنْتُـم النَّـاسُ أَيُّـهَـا الشُّعَـرَاءُ
فَاتَّقـوا اللَّهَ فِي قُلـوبِ العَـذَارَى
فَالعَـذَارَى قُلُـوبُهُـنَّ هَــوَاءُ
وقد جمع شوقي شعره الغنائي في ديوان سماه (الشوقيات)، ثم قام الدكتور محمد صبري السربوني بجمع الأشعار التي لم يضمها ديوانه، وصنع منها ديوانًا جديدًا في مجلدين أطلق عليه (الشوقيات المجهولة)
وفي الختام اذكر من بدائع قصائده قصيدته ( شيعت احلامي ) التي تغنى بها الموسيقا ر محمد عبد الوهاب ومن بعده فيروز صاحبة الصوت الشجي الجميل الناعم ذي الصدحات العالية والنغمات الطويلة او الراقصة في بعض الانغام التي تطرب الاسماع وتنشرح لصوتها الصدور:
شيعتُ أحلامي بقلبٍ باكِ
ولمحتُ من طرق الملاحِ شباكي
ورجعتُ أَدراجَ الشباب ووِرْدَه
أَمشي مكانَهما على الأَشواك
وبجانبي واهٍ ، كأن خفوقه
لما تلفتَ جهشة ُ المتباكي
شاكي السلاحِ إذا خلا بضلوعه
فإذا أهيبَ به فليس بشاك
قد راعه أني طويتُ حبائلي
من بعد طول تناولٍ وفكاك
ويح ابن جنبي ؟ كلُّ غاية ِ لذة ٍ
بعد الشباب عزيزة الإدراك
لم تبق منا - يا فؤادُ - بقية ٌ
لفتوة ٍ ، أو فضلة ٌ لعراك
كنا إذا صففتَ نستبق الهوى
ونشدُّ شدَّ العصبة ِ الفتاك
واليوم تبعث فيَّ حين تهزني
ما يبعث الناقوسُ في النساك
يا جارة َ الوادي، طَرِبْتُ وعادني
ما يشبهُ الأَحلامَ من ذكراك
مثلتُ في الذكرى هواكِ وفي الكرى
والذكرياتُ صدى السنين الحاكي
ولقد مررتُ على الرياض برَبْوَة ٍ
غَّناءَ كنتُ حِيالها ألقاك
ضحكتْ إليّ وجوهها وعيونها
ووجدْتُ في أَنفاسها ريّاك
فذهبتُ في الأيام أذكر رفرفاً
بين الجداولِ والعيونِ حَواك
أذكرتِ هرولة َ الصبابة ِ والهوى
لما خَطرتِ يُقبلان خُطاكِ؟
لم أَدر ما طِيبُ العِناقِ على الهوى
حتى ترفَّق ساعدي فطواك
وتأوَّدت أعطاف بانِك في يدي
واحمرّ من خَفريهما خدّاك
ودخلتُ في ليلين : فرعِك والدُّجى
ولثمتُ كالصّبح المنوِّرِ فاكِ
ووجدْتُ في كُنْهِ الجوانحِ نَشْوَة ً
من طيب فيك، ومن سُلاف لَمَاك
وتعطَّلَتْ لغة ُ الكلامِ وخاطبَتْ
عَيْنَيَّ في لغة الهوى عيناك
ومَحوتُ كلَّ لُبانة ٍ من خاطري
ونسيتُ كلَّ تعاتُبٍ وتشاكي
لا أمسِ من عمرِ الزمان ولاغدٌ
جُمِع الزمانُ فكان يومَ رِضاك
لُبنانُ ، ردتني إليكَ من النوى
أقدارُ سيرٍ للحياة دَرَاك
جمعتْ نزيلي ظهرِها من فُرقة ٍ
كُرَة ٌ وراءَ صَوالجِ الأَفلاك
نمشي عليها فوقَ كلِّ فجاءة ٍ
كالطير فوقَ مَكامن الأشراك
ولو أنّ الشوق المزارُ وجدتني
مُلقى الرحالِ على ثراك الذاكي
بنت البقاع وأمَّ بردُوِنيِّها
طيبي كجلَّق ، واسكبي بَرداك
ودِمَشْقُ جَنَّاتُ النعيم، وإنما
ألفيتُ سُدَّة َ عدنِهنَّ رُباك
قسماً لو انتمت الجداولُ والرُّبا
لتهلَّل الفردوسُ ، ثمَّ نَماك
مَرْآكِ مَرْآه وَعَيْنُكِ عَيْنُه
لِمْ يا زُحَيلة ُ لا يكون أباكِ؟
تلك الكُروم بقية ٌ من بابلٍ
هَيْهَاتَ! نَسَّى البابليَّ جَناك
تبدي كوشي الفُرس أفتّنَ صبغة ٍ
للناظـريـن إلـى أَلَـذِّ حِـيـاكِ
خرزاتِ مِسكٍ أو عُقودَ الكهربا
أُودِعْنَ كافوراً من الأَسلاك
فكَّرْتُ في لَبَنِ الجِنانِ وخمرِها
لمّا رأيتُ الماءَ مَسَّ طِلاك
لم أنس من هبة ِ الزمانِ عشيَّة ً
سَلَفَتْ بظلِّكِ وانقضَتْ بِذَراك
كًنتِ العروسَ على منصة ِ جنحها
لًبنانُ في الوشي الكريم جَلاكِ
يمشي إليكِ اللّحظُ في الديباج أَو
في العاج من أي الشِّعاب أتاك
ضَمَّتْ ذراعيْها الطبيعة ُ رِقَّة ً
صِنِّينَ والحَرَمُونَ فاحتضناك
والبدرُ في ثبج السماءِ مُنورٌ
سالت حُلاه على الثرى وحُلاكِ
والنيِّرات من السحاب مُطِلَّة ٌ
كالغيد من سترٍ ومن شُباك
وكأَنَّ كلَّ ذُؤابة ٍ من شاهِقٍ
ركنُ المجرة أو جدارُ سِماك
سكنتْ نواحي الليل ، إلا أنَّة ً
في الأَيْكِ، أَو وَتَراً شَجِيَّ حَراك
شرفاً ـ عروس الأرز ـ كلُّ خَريدة
تحتَ السماءِ من البلاد فِداك
رَكَز البيانُ على ذراك لواءَه
ومشى ملوكُ الشعر في مَغناك
أُدباؤك الزُّهر الشموسُ ، ولا أرى
أَرضاً تَمَخَّضُ بالشموس سِواك
من كلّ أَرْوَعَ علْمُه في شعره
ويراعه من خُلقه بملاك
جمع القصائدَ من رُباكِ، وربّما
سرق الشمائلَ من نسيم صَباك
موسى ببابك في المكارم والعلا
وعَصاهُ في سحر البيانِ عَصاكِ
أَحْلَلْتِ شعري منكِ في عُليا الذُّرا
وجمعته برواية الأملاك
إن تُكرمي يا زَحْلُ شعري إنني
أَنكرْتُ كلَّ قَصيدَة ٍ إلاَّك
أَنتِ الخيالُ: بديعُهُ، وغريبُه
الله صاغك، والزمانُ رَواك
************************