ابو العتاهية
هوابو اسحاق اسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان العيني العنزي من قبيلة عنزة العربية وقيل من الموالي وكني بأبي العتاهية لأنَّ الخليفة المهدي قال له يومًا:
- أنت إنسانٌ مُتحذلِق - أي متظرف- متعته فاستَوَى له) فغلبَتْ عليه دون اسمه وجرَتْ مجرى اللقب وقيل في رواية اخرى و كان له ولدٌ يُقال له: عتاهية و لو كان الأمر كذلك لقيل: أبو عتاهية، بغير ال التعريف لكني ارى الاولى اقرب للصواب
ولد بقرية (عين التمر) في بادية الرمادي سنة\130 هجرية-747 ميلادية وكان اهله يشتغلون في صناعة الفخار وبيعه وانتقل الى الكوفة
نشَأ أبو العتاهية نشأةً مُتواضِعة؛ إذ كان أبوه وأهله يصنَعون الفخَّار، وعمل أبو العتاهية أيضًا في صناعة أبيه، فكان يحمل الفخَّار في قفصٍ على ظهره، ويَدُور بها في الكوفة لبيعها.
واختلف الى الحلقات الادبية والشعرية التي كانت تعقد في الكوفة لقربها من موقع سكنه وفيها اكتملت شاعريته وذاع صيته ومع اتِّساع مدينة الكوفة وانتِشار الرخاء فقد نشَأَت فيها طوائِفُ من المُجَّان يقولون الشعر، متنقِّلين على معاهد اللهو ومُوغِلين في وهدة المفاسِد يَفسُقون ويتهتكون ويتزندَقُون وينعتون أنفسهم ب(الظرفاء ) وأنهم حلية الأرض ونقش الزمان أمثال: حماد بن عجرد، ومطيع بن إياس وحسين الضحاك ويحي بن زياد، وغيرهم.
و في هذه البيئة نشَأ أبو العتاهية وكان يُخالِط هؤلاء الشُّعَراء المجَّان ويختلف إلى حلقات العلماء ومجالس العبَّاد ثم لم يلبَثْ أنْ تفتَّقت شاعريَّته وأحسَّ في نفسه قدرةً على النَّظم فأنشَدَ لجماعة من مُتَأدِّبي الكوفة شعرًا له فأعجَبَهم وأذاعُوه بين الناس فإذا بطلاَّب الشعر والأُدَباء من أهل الكوفة يقصدونه ويستَنشدونه ويكتُبون أشعاره على ما تكسر من الخزف في محله لبيع الجرار الفخارية الا انه عزف عنها وانصرف الى قول الشعر وقد قال اول الامر الشعرالخليع الماجن لعلاقته بشعراء كانوا في الكوفة يقولون هذا النوع من الشعر اذ انتقلت عدواه منهم اليه لتاثيرهم عليه واحتكاكه بهم فمال إلى العلم والأدب ونظم الشعر حتى نبغ فيه وبعد ان اكتملت نشأته انتقل إلى بغداد، على امل الاتصال بالخلفاء
قصد ابو العتاهية بغداد عاصمة الخلافة وام الدنيا واتصل بالخليفة المهدي وراح يمدحه فقربه الخليفة وجعله من شعراء بلاطه وكذلك مدح الامراء والقادة والوجهاء من ذوي المنا زل الرفيعة في بغداد
قدم من الكوفه إلى بغداد مع إبراهيم الموصلي، ثم افترقا ونزل شاعرنا الحيره ويظهر انه كان اشتهر في الشعر لان الخليفه المهدي لم يسمع بذكره حتى قدومه بغداد فامتدحه أبو العتاهيه ونال جوائزه.واتفق ان عرف ابو العتاهية (عتبه ) وهي جاريه من جواري الخليفة المهدي، فاولع بها وطفق يذكرها بشعر ه فغضب المهدي وحبسه ولكن الشاعر استعطفه بابياته .فرق له المهدي و اخلى سبيله وقيل انه كتب للخلفة المهدي يستعطفه فيها : .
نفسي بشيء من الدنيا معلقة
الله والقائم المهدي يكفيها
إني لأيأس منها ثم يطعمني
فيها احتقارك للدنيا وما فيها
فهم الخليفة بدفعها إليه فجزعت (عتبة) واستعفت
وقالت : أتدفعني إلى رجل سوقة قبيح المنظر
لانها لم تحبه فتعذب بحبها كثيرا حيث كان حبه لها من جانب واحد هو جانبه فعوضه الخليفة المهدي بهدية ذهبية وانشد فيها قصائد غزل كثيرة يستعطفها ويتغزل بها دونما فائدة اذ لم تتعطف عليه ولم تحبه ومن قوله فيها :
إذا ما بدت والبدر ليلة تمه
رأيت لها وجها يدل على عذري
وتهتز من تحت الثياب كأنها
قضيب من الريحان في ورق خضر
أبى الله إلا أن أموت صبابة
بساحرة العينين طيبة النشر
ومن جميل غزله يقول :
حسناء لا تبتغي حليا إذا برزت
لأن خالقها بالحسن حلاها
قامت تمشى فليت الله صيرني
ذاك التراب الذي مسته رجلاها
وذكر محمد بن سلام :
( قدم أبو العتاهية من الكوفة إلى بغداد وهو خامِل الذكر بها، فمدَح الخليفة المهدي بشعر ولكنَّه لم يجد مَن يوصله إليه فكان يطلب سببًا يشتَهِر به حتى يصل خبره إلى المهدي، فاجتازَتْ به يومًا (عتبة) - وكانت جارية لزوج المهدي - وكانت راكبةً مع بعض الجواري فكلَّمَها واستوقَفَها فلم تُكلِّمه، وأمرت الغِلمان بتنحيته عن الطريق ) ومن ثم اولع بها.
ومن شعره في مدح الخليفة المهدي :
أَتَــتــهُ الـخِـلافَـةُ منقادة ً
إِلَـــيــهِ تُــجَــرِّرُاذيالها
وَلَـــم تَــكُ تَـصـلُحُ إ ِلا لَــهُ
وَلَــم يَــكُ يَـصـلُحُ إِلا لها
وَلَــو رامَـهـا أَحَــدٌ غَـيـرُهُ
لَـزُلزِلَتِ الأَرضُ زلزالها
وَلَو لَم تُطِعهُ بَناتُ القُلوبِ
لَـمـا قَـبِـلَ الـلَـهُ أَعـمـالَها
وَإِنَّ الخَليفَةَ مِن بَعضِ لا
إِلَـيـهِ لَـيُـبغِضُ مَـن قالها
درس اسماعيل هذا الفلسفة في العقيدة وعلوم الدين فنبذ قول الشعر الخليع وتنصل مما قال فيه في صباه وشبابه ونبذ ملذات الحياة وانقطع الى قول الشعر في الزهد في الدنيا والتذكير في الاخرة بعد الموت حيث كان زهده في الدنيا نتيجة دراسة وثقافة عالية وليست رد فعل لعدم استجابة حبيبته اليه وربما بكليهما لذا كف عن حياة اللهو والمجون ومال إلى التنسك والزهد، وانصرف عن ملذات الدنيا والحياة وشغل بخواطر الموت ودعا الناس إلى التزوّد من دار الفناء إلى دار البقاء وقيل انه حج مع عبده فلما عاد الى بغداد لحاه الشاعر سلم الخاسر فقال ابو العتاهية:
والـلـه والـلـه مـا أبـــالـــي مـــتـــى
ما مـت يا سـلـم بـعــد ذا الـــســـفـــر
أليس قد طفت حيث طافت
وقبلت الذي قبلت من الحجر
وقيل ان الشاعر (سلم الخاسر) قال له يوما
بعد أنْ سمع بعضَ شعره في الزهد:
- لقد جوَّدتها، لو لم تكن ألفاظها سوقيَّة
- فردُّ عليه أبو العتاهية:
( والله ما يرغبني فيها إلاَّ الذي زهَّدك فيها ).
ويقول لأحد شُعَراء الزُّهد الذين يَحرِصون على المثاليَّة في التعبير وتحرِّي لغة الخاصة:
(اعلم أنَّ ما قلته رديء لأنَّ الشعر ينبغي أنْ يكون مثل أشعار الفحول فإن لم يكن كذلك فالصواب لقائله أنْ تكون ألفاظه ممَّا لا تَخفَى على جمهور الناس مثل شعري ولا سيَّما الأشعار التي في الزهد، فإنَّ الزهد ليس من مذاهب الملوك ولا من مذاهب رُوَاة الشعر ولا طُلاَّب الغريب وهو مذهب أشغف الناس به الزهَّاد، وأصحاب الحديث، والفقهاء وأصحاب الرِّياء والعامَّة وأعجب الأشياء إليهم ما فهموه)
وقيل ان ابا العتاهية لما الت الخلافة الى الرشيد هجرالشعر وامتنع عن القول فيه فطلب إليه أن يعود لقول الشعر فأبى فحبسه في منزل مهيأ له حتى عاد إلى الشعر ولازم الرشيد
وقد مدح ابو العتاهية من الخلفاء العباسيين المهدي وابنيه الهادي والرشيد ومدح بعد الرشيد ابنيه الامين والمامون
وقد تعصُّب الرشيد لشعر أبي العتاهية وقدمه على شعر كثيرٍ من الفُحُول من مُعاصِريه ومن اخباره في ذلك :
قيل دخل أبو العتاهية على الرشيد حين بنى قصره، وزخرف مجلسه واجتمع إليه خواصه،
فقالالرشيد له: صف لنا ما نحن فيه من الدنيا
فقال:
عش ما بدا لك آمناً..... في ظلّ شاهقة القصور
فقال الرشيد: أحسنت، ثم ماذا؟
فقال:
يسعى إليك بما اشتهيـ .:. ـت لدى الرواح وفي البكور
فقال: حسن، ثم ماذا؟
فقال:
فإذا النفوس تقعقعت في ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً . ما كنت إلاّ في غرور
فبكى الرشيد بكاء شديداً حتى رُحِم
فقال له الفضل بن يحيىالبرمكي : بعث إليك المؤمنين لتسره فأحزنته
فقال له الرشيد: دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى .
وأمَّا العامَّة فكان أبو العتاهية يُلقِي عليهم شعرَه في المحافِل فيزدَحِمون من حوله لسماعه ويُصفِّقون له ييعجبون به أنَّه يعبِّر عن إحاسيسهم الدينية، وميولهم الروحيَّة .
زهد أبو العتاهية في الدنيا، وفي لذائذها وشَهواتها، وخافَ الموت وما بعدَه، وخوَّف منه وذكَر من ذلك كثيرًا في شعره ممَّا يُعِين أهلَ العقل والدِّين والتقوى ويَبعَثهم على الزهد في الدنيا.وعلى الايمان الصلاح
وكذلك له أشعارُكثيرة يَشكُو فيها ظُلم الناس وحسَدِهم له أو تدلُّ على حسن اعتقاده وما يكن في نفسه بسلامة دينه ونزعته إلى الزهد والوعظ والحكمة ما يؤكِّد ان ابا العتاهية قد تاب الى ربه توبة نصوحا وزهد في الدنيا صدقًا. لاحظ قوله :
أَلا لِلَّهِ أَنتَ مَتى تَتوبُ
وَقَد صَبَغَت ذَوائِبَكَ الخُطوبُ
كَأَنَّكَ لَستَ تَعلَمُ أَيُّ حَثٍّ
يَحُثُّ بِكَ الشُروقُ وَلا الغُروبُ
وَكَيفَ تُريدُ أَن تُدعى حَكيماً
وَأَنتَ لِكُلِّ ما تَهوى رَكوبُ
وَما تَعمى العُيونُ عَنِ الخَطايا
وَلَكِن إِنَّما تَعمى القُلوبُ
أَراكَ تَغيبُ ثُمَّ تَأوبُ يَوماً
وَيوشِكُ أَن تَغيبَ وَلا تَؤوبُ
.
لذا فضل حياة التقشف على ملذات الدنيا وبهرجتها وزخارفها
لاحظ قوله :
رَغِيفُ خُبْزٍ يَابِسٌ تَأْكُلُهُ فِي زَاوِيَهْ
وَكُوزُ مَاءٍ بَارِدٍ تَشْرَبُهُ مِنْ صَافِيَهْ
وَغُرْفَةٌ ضَيِّقَةٌ نَفْسُكَ فِيهَا خَالِيَهْ
أَوْ مَسْجِدٌ بِمَعْزِلٍ عَنِ الوَرَى فِي نَاحِيَهْ
وله أرجوز ه مزدوجة أسماها (ذات الأمثال)تظهر أنَّه كان يستلهم شعره من عقل واع في نظرةً ثاقبةً وفكر وقاد فوقَف على ما في الحياة من خيرٍ وشرٍّ، وأدرَكَ أنَّ في الإنسان جملة نزاعات بين الخير والشر وأنْ عليه يُنمِّي فطرةَ الخير في هذا الانسان ويُقاوِم نزعة الشرِّ وفيها يقول:
إِنَّ الشَّبَابَ وَالفَرَاغَ وَالجِدَةْ
مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَةْ
هِيَ الْمَقَادِيرُ فَلُمْنِي أَوْ فَذَرْ
إِنْ كُنْتُ أَخْطَأْتُ فَمَا أَخْطَا القَدَرْ
وقد فضل الحياة الاخرة واحبها وهجرالدنيا وبقي هكذا الى ان وافته المنية في خلافة الخليفة المامون في بغداد سنة\ 212 هجرية\825 ميلادية وفي رواية اخرى 213 هجرية
وقد اوصى ان يكتب على قبره :
أذن حيّ تسمّعي اسمعي ثمّ عي وعي
أنا رهن بمضجعي فاحذري مثل مصرعي
عشت تسعين حجّة أسلمتني لمضجعي
كم ترى الحيّ ثابتا في ديار التّزعزع
ليس زاد سوى التّقى فخذي منه أو دعي
يتميز شعره بسهولة عجيبة وبوضوح المعاني والالفاظ المنتقاة فكان شاعرا مكثر ا سريع الخاطر في شعره إبداع.وفن وكان كثير النظم حتى قيل (لم يكن للإحاطة بجميع شعره من سبيل.) وفي شعره غَزارَةٍ في المعاني أمدَّتْه بها حياتُه وسط العامَّة في الكوفة ونشأته المُتَواضِعة بين سوقة الناس وعامتهم فكان ما وَعاه طبعُه وأفادَتْه قريحته منها أكثر ممَّا اكتَسَبه من تأدُّبه في الكتاتيب وعلى ايدي الادباء والعلماء واقتَناه من عِلمِه
يعدّ من اوائل الشعراء المولدين في الشعرالعربي مثل بشار وأبي نواس ومسلم بن الوليد وابن الرومي وأمثالهم وكان يجيد القول في الغزل و الزهد والمديح بقية أنواع الشعر في عصره. وشعره يمثل روحية شعب بائس فقير معدم وهم غالبية الشعب انذاك وقد هجر الحياة وملذاتها وسلك الطريق الى الاخرة ومن قوله في الزهد:
الم تر ريب الدهر في كل ساعة
له عارض فيه المنية تلمع
اياباني الدنيا لغيرك تبتنى
وياجامع الدنيا لغيرك تجمع
تبارك من لايملك الملك غيره
متى تنقضي حاجات من ليس يشبع
ارى المرء وثابا الى كل فرصة
وللمرء يوما لامحالة مدمع
وايامرئ في غاية ليس نفسه
الى غاية اخرى سواهـا تطـلـع
ويقول في الموت
هوَ المَوْتُ، فاصْنَعْ كلَّ ما أنتَ صانعُ،
وأنْتَ لِكأْسِ المَوْتِ لاَ بُدَّ جارِعُ
ألا أيّها المَرْءُ المُخادِعُ نَفسَهُ
رُويداً أتَدْرِي مَنْ أرَاكَ تخَادِعُ
ويا جامِعَ الدُّنيا لِغَيرِ بَلاَغِهِ
سَتَتْرُكُهَا فانظُرْ لِمَنْ أنْتَ جَامِعُ
وَكم قد رَأينا الجامِعينَ قدَ اصْبَحَتْ
لهم، بينَ أطباقِ التّرابِ مَضاجعُ
لَوْ أنَّ ذَوِي الأبْصَارِ يَرَعُوْنَ كُلَّمَا
يَرَونَ، لمَا جَفّتْ لعَينٍ مَدامِعُ
فَما يَعرِفُ العَطشانَ مَنْ طالَ رِيُّهُ،
ومَا يَعْرِفُ الشَّبْعانُ مَنْ هُوَ جائِعُ
وَصارَتْ بُطونُ المُرْملاتِ خَميصَة ً،
وأيتَامُهُمْ منهمْ طريدٌ وجائعُ
وإنَّ بُطُونَ المكثراتِ كأنَّما
تنقنقُ فِي أجوافِهِنَّ الضَّفَادِعُ
وتصْرِيفُ هذَا الخَلْقِ للهِ وَحْدَهُ
وَكُلٌّ إلَيْهِ، لا مَحَالَة َ، راجِعُ
وللهِ فِي الدُّنيَا أعَاجيبُ جَمَّة ٌ
تَدُلّ على تَدْبيرِهِ، وبَدَائِعُ
وللهِ في أسرارُ الأمُورِ وإنْ جَرَتْ
بها ظاهِراً، بَينَ العِبادِ، المَنافِعُ
وللهِ أحْكَامُ الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ
ألاَ فهوَ معْطٍ مَا يَشَاءُ ومَانِعُ
إذا ضَنّ مَنْ تَرْجو عَلَيكَ بنَفْعِهِ،
فذَرْهُ، فإنّ الرّزْقَ، في الأرْضِ، واسعُ
وَمَنْ كانَتِ الدّنْيا هَواهُ وهَمَّهُ
سبَتْهُ المُنَى واستعبدَتْهُ المَطَامِعُ
وَمَنْ عَقَلَ استَحيا، وَأكرَمَ نَفسَه،
ومَنْ قَنِعَ استغْنَى فَهَلْ أنْتَ قَانِعُ
لِكلِّ امرِىء ٍ رأْيَانِ رَأْيٌ يَكُفّهُ
عنِ الشّيءِ، أحياناً، وَرَأيٌ يُنازِعُ
*****************