قيس بن ذريح
( قيس لبنى)
هو قيس بن ذريح بن سنة بن حذافة بن طريف بن عتوارة بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة من قبيلة كنانة ومسكنه في ظاهر المدينة المنورة شاعر اموي . من العشاق المتيمين، اشتهر بحب لبنى بنت الحباب الكعبي من سكنة المدينة المنورة . كان اخا للحسين بن علي بن أبي طالب بالرضاعة أرضعتهما كليهما أم قيس،
وقيل ان سبب علاقته بلبنى بنت الحباب الكعبي الخزاعية أنه ذهب يوما في بعض حاجاته فمر ببني كعب وقد اشتد الحرعليه فاستسقى الماء من خيمة منهم فبرزت إليه امرأة طويلة القامة بهية الطلعة عذبة الكلام سهلة المنطق فناولته اداوة فيها ماء، فلما هم بالذهاب قالت له ألا تبرد عندنا، وقد تمكنت من فؤاده فقال نعم
فمهدت له وطاء واستحضرت ما يحتاج إليه حتى جاء والدها ، فلما وجده رحب به ونحر له جزوراً وأقام عندهم حتى مساء ذلك اليوم ثم انصرف وقد دخلت قلبه ودخلته وشغف بها فجعل يكتم ذلك في قلبه إلى أن غلب عليه الحب والشوق فنطق فيها في شعره وشاع ذلك عنه وقيل أنه مر بها ثانياً فنزل عندهم وشكا إليها حين تخاليا ما نزل به من وجدها وحبه لها فوجد الذي عندها أضعاف ماعنده وعلم كل واحد ما عند الآخر. فمضى إلى أبيه فشكا إليه فقال له ابوه دع هذه وتزوج بإحدى بنات عمك، فغم منه وكتم غيضه وجاء إلى أمه فكان منها ما كان من أبيه فتركهما. فأتى اخاه من الرضاعة ( الحسين بن علي، سلام الله عليهما) فشكى ما بهاليه فقال له الحسين: أنا أكفيك. فمضى معه إلى أبي لبنى، فلما بصر به، وثب إليه، وأعظمه،
وقال: يا ابن رسول الله، ما جاء بك إلي ؟ ألا بعثت إلي فآتيك ؟
قال: قد جئتك خاطباً ابنتك لبنى، لقيس بن ذريح، وقد عرفت مكانه مني.
فقال: يا ابن بنت رسول الله، ما كنت لأعصى لك أمراً، وما بنا عن الفتى رغبة، ولكن أحب الأمرين إلينا، أن يخطبها ذريح علينا، وأن يكون ذلك عن أمره، فإنا نخاف أن يسمع أبوه بهذا، فيكون عاراً ومسبة علينا.
فأتى الحسين رضي الله عنه ذريحاً والده ، وقومه مجتمعون، فقاموا إليه احتراما وتوقيرا وقالوا له مثل قول الخزاعي.
فقال: يا ذريح، أقسمت عليك بحقي، إلا خطبت لبنى لابنك قيس.
فقال: السمع والطاعة لأمرك. فتزوجها
ولما تزوجها أقام مدة طويلة على أرفع حال واحسن ما يكون من الأحوال ومراتب الإقبال، وفنون المحبة. الا انها لم تنجب له اولادا وكان قيس أبر الناس بأمه، فألهته لبنى وعكوفه عليها عن بعض ذلك فقصر في محبته وبره لها فوجدت أمه في نفسها، وقالت: لقد شغلت هذه المرأة ابني عن بري. وكتمت ذلك في قلبها ً حتى مرض قيس مرضاً شديداً، فلما برئ، قالت أمه لأبيه: لقد خشيت أن يموت قيس ولم يترك خلفاً، وقد حرم الولد من هذه المرأة، وأنت ذو مال، فيصير مالك إلى الكلالة، فزوجه غيرها، لعل الله عز وجل يرزقه ولداً، وألحت عليه في ذلك. فأمهل ذريح حتى اجتمع قومه،
ثم قال له: يا قيس، إنك اعتللت هذه العلة ولا ولد لك، ولا لي سواك، وهذه المرأة ليست بولود، فتزوج إحدى بنات عمك لعل الله أن يهب لك ولداً تقر به عينيك وأعيننا.
فقال قيس: لست متزوجاً غيرها أبداً.
فقال أبوه: يا بني، فإن مالي كثير، فتسر بالإماء.
فقال: ولا أسوؤها بشيء أبداً.
قال أبوه: فإني أقسم عليك إلا طلقتها. فأبى ورفض ذلك بشده
، وقال: الموت- والله- أسهل علي من ذلك، ولكني أخيرك خصلة من خصال.
فقال: وما هي ؟
قال: تتزوج أنت، فلعل الله عز وجل أن يرزقك ولداً غيري.
فقال: ما في فضل لذلك.
قال: فدعني أرحل عنك بأهلي، وأصنع ما كنت صانعاً، لو كنت مت في علتي هذه.
فقال: ولا هذا.
قال: فادع لبنى عندك، وأرتحل عنك إلى أن أسلوها، فإني ما تحب نفسي أن أعيش، وتكون لبنى غائبة عني أبداً، وأن لا تكون في حبا لي.
فقال: لا أرضى بذلك، أو تطلقها،
وحلف لا يكنه سقف ا و لا يسكن تحت سقف بيت أبداً، حتى يطلق لبنى. وكان يخرج فيقف في حر الشمس، ويجيء قيس فيقف إلى جانبه، فيظله بردائه، ويصلى هو بحر الشمس الهاجرة ، حتى يفيء الفيء عنه، وينصرف إلى لبنى، فيعانقها، ويبكي، وتبكي معه.
وتقول له: يا قيس، لا تطع أباك، فتهلك، وتهلكني معك.
فيقول لها: ما كنت لأطيع أحداً فيك أبداً.
وقيل إنه مكث على هذه سنة كاملة ، ثم طلقها لأجل والده، فلم يطق الصبر عنها.
قال ابن جريج: أخبرت أن عبد الله بن صفوان لقي ذريحاً أبا قيس، فقال له: ما حملك على تفريق بين قيس ولبنى ، أما علمت أن عمر بن الخطاب، قال: ما أبالي فرقت بين الرجل وامرأته، أو مشيت إليهما بالسيف.
قال: قال الحسين بن علي عليهما السلام لذريح أبي قيس: أحل لك أن فرقت بين قيس ولبنى،؟ أما أني سمعت عمر بن الخطاب، يقول: ما أبالي فرقت بين الرجل وامرأته، أو مشيت إليهما بالسيف . أخبرنا عمر بن أبي نصر،انه سمع قيس بن ذريح يقول ليزيد بن سليمان: هجرني أبواي، إثنتي عشرة سنة، أستأذن عليهما، فيرداني، حتى طلقتها.
فلما أزمعت لبنى الرحيل بعد العدة جاء وقد قوض فسطاطها فسأل الجارية عن أمرهم فقالت سل لبنى فأتى إليها فمنعه أهلها وأخبروه أنها غداة غد ترحل إلى أهلها فسقط مغشياً عليه، فلما أفاق وأنشد:
وإني لمفن دمع عيني بالبكى
حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غداً أو بعد ذاك بليلة
فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي
بكفيك إلا أن ما حان حائن
وقال أيضاً:
يقولون لبنى فتنة كنت قبلها
بخير فلا تندم عليها وطلق
فطاوعت أعدائي وعاصيت ناصحي
وأقررت عين الشامت المتملق
وددت وبيت اللّه أني عصيتم
وحملت في رضوانها كل موثق
وكلفت خوص البحر والبحر زاخر
أبيت على اثباج موج مفرق
كأني أرى الناس المحبين بعدها
عصارة ماء الحنظل المتفلق
فتنكر عيني بعدها كل منظر
ويكره سمعي بعدها كل منطق
و حين ارتحلت تبعها ينظر إليها، فلما غابت رجع يقبل أثر بعيرها، فلاموه على ذلك فأنشد:
وما أحببت أرضكم ولكن
أقبل أثر من وطئ الترابا
لقد لاقيت من كلف بلبنى
بلاء ما أسيغ له الشرابا
إذا نادى المنادي باسم لبنى
عييت فلا أطيق له جوابا
ولما أجنه الليل أوى إلى مضجعه فلم يطق فراقها ولم يقر به قرار فجعل يتالم و يتململ ويتمرغ في موضعه ويقول:
بت والهم يا لبينى ضجيعي
وجرت مذ نأيت عني دموعي
وتنفست إذ ذكرتك حتى زالت
اليوم عن فؤادي ضلوعي
و قيل ان امه أرسلت إليه يوماً بنات يعبن لبنى عنده ويلهينه بالتعرض إلى وصلهن فأنشد:
يقر لعيني قربها ويزيدني بها
عجباً من كان عندي يعيبها
وكم قائل قد قال تب فعصيته
وتلك لعمري توبة لا أتوبها
فيا نفس صبر الست واللّه فاعلمي
بأول نفس غاب عنها حبيبها
ولما اشتد شوقه وزاد غرامه أفضى به الى مرض ألزمه الفراش واختلال العقل واشتغال البال، فلام الناس أباه على سوء فعله فجزع وندم وجعل يتلطف به، فأرسل له طبيباً وقينات يسألون عن حاله ويخففون مابه من سقم ويلهونه، فلما أطالن عليه أنشد:
عند قيس من حب لبنى ولبنى
داء قيس والحب صعب شديد
فإذا عادني العوائد يوماً
قالت العين لا أرى من أريد
ليت لبنى تعودني ثم أقضي
أنها لا تعود فيمن يعود
ويح قيس لقد تضمن منها داء
خبل فالقلب منه عميد
فقال له الطبيب مذ كم هذه العلة بك ومذ كم غرمت بهذه المرأة وتولهت فقال:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا
وليس إذا متنا بمنفصم العقد
فزاد كما زدنا وأصبح نامياً
وليس إذا متنا بمنصم المهد
ولكنه باق على كل حادث
وزائرتي في ظلمة القبر واللحد
فقال إنما يسليك عنها تذكر ما فيها من المساوي والمعايب وما تعافه النفس وقيل أن أباه دخل عليه وهو يخاطب الطبيب فجعل يؤنبه ويلومه، فلما لم يفد ذلك عرض عليه التزويج فأنشد:
لقد خفت أن لا تقنع النفس بعدها
بشيء من الدنيا وإن كان مقنعا
وازجر عنها النفس إن حيل دونها
وتأبى إليها النفس إلا تطلعا
فلما أيس منه استشار قومه في دائه فاتفقت آراؤهم على أن يأمروه ان يجوب احياء العرب فلعل أن تقع عينه على امرأة تستميل عقله فاقسموا عليه أن يفعل ففعل وأنه اتفق أن نزل بحي من فزارة فرأى جارية قد حسرت عن وجهها برقع خز وهي كالبدر حسناً وبهجة فسأل عن اسمها فقالت لبنى فسقط مغشياً عليه فارتاعت منه ونضحت وجهه بالماء وقالت إن لم تكن قيساً فمجنون. فلما أفاق استنسبته فإذا هو قيس فأقسمت عليه أن ينال من طعامها، فتناول قليلاً وركب فجاء أخوها على أثره فأعلمته القصة فركب حتى استرده وأقسم عليه أن يقيم عنده شهراً، فقال شفقت علي وأجاب فكان الفزاري يعجب به ويعرض عليه الصهارة حتى لامته العرب وقالوا نخشى أن يصير فعلك سنة فيقول دعوني في مثل هذا الفتى يرغب الكرام وقيس يقول له إن فيكم الكفاية ولكني في شغل لا ينتفع بي معه فألح عليه حتى عقد له على أخته ودخل بها فأقام معها أياماً لا تهش نفسه إليها ولا يكلمها ثم استأذن في الخروج إلى أهله فأذنوا له فخرج إلى المدينة وكان له بها صديق فأعمله أن لبنى قد بلغها تزويجه فغمت لذلك وقالت إنه لغدار وإني طالما خطبت فأبيت والآن أجيب هذا وإن أبا لفنى قد اشتكى قيساً إلى معاوية وإنه يشبب بابنته فكتب إلى مروان بهدر دمه وأمره أن يزوج ابنته بخالد بن خلدة الغطفاني وهو كندي حليف قريش فجعل النساء ليلة زفافها يغنينها:
لبينى زوجها أصبح لا حر يوازيه
له فضل على الناس وقد باتت تناجيه
وقيس ميت حقاً صريع في بواكيه
فلا يبعده اللّه وبعداً لنواعيه
ولما بلغ ذلك قيساً اشتد به الغرام فركب حتى أتى محلة قومها فقالت له النساء ما تصنع هنا وقد رحلت مع زوجها فلم يلتفت حتى أتى موضع خبائها فتمرغ به وأنشد:
إلى اللّه أشكوا فقد لبنى كما
شكا إلى اللّه بعد الوالدين يتيم
يتيم جفاه الأقربون فجسمه
نحيل وعهد الوالدين قديم
وقيل ان لبنى قدمت للحج في تلك السنة فاتفق خروجه أيضاً فتلاقيا فأبهت وأرسلت إليه مع امرأة تستخبرها عن حاله وتسلم عليه فأعاد السلام والسؤال وأنشد:
إذا طلعت شمس النهار فسلمي
فإني يسليني عليك طلوعها
بعشر تحيات إذا الشمس أشرقت
وعشر إذا اصفرت وحان رجوعها
ولو أبلغتها جارة قولي أسلمي طوت
حزناً وارفض منها دموعها
وحين انقضى الحج مرض مرضاً أنهكه فأكثر الناس من عيادته فجعل يتكفر لبنى وعدم رؤيته لها فأنشد:
ألبنى لقد جلت عليك مصيبتي
غداة غد إذ حل ما أتوقع
تمنيني نيلاً وتلويني به
فنفسي شوقاً كل يوم تقطع
ألومك في شأني وأنت مليمة
لعمري وأجفى للمحب وأقطع
وأخبرت أني فيك مت بحسرة
فما فاض من عينيك للوجد مدمع
إذا أنت لم تبكي عليّ جنازة
لديك فلا تبكي غداً حين أرفع
فحينما بلغتها الأبيات جزعت جزعاً شديداً وخرجت إليه خفية على ميعاد فاعتذرت عن الانقطاع وأعلمته أنها إنما تترك زيارته خوفاً عليه أن يهلك وإلا فعندها ما عنده ولكنها جلدة وفي منازل الأحباب يرفعه إلى ابن عباس قال مررت بربع عفا رسمه وإذا بشخص فسلمت عليه لم يرد فمضيت وإذا هو يناديني فرجعت فرد علي السلام واعتذر ثم ذكر أنه تعتريه غيبة العقل أطواراً هذا ودمعه يسفح كالغيث فقلت له من أنت قال قيس ابن ذريح وأنشد:
أمانيه لبنى ولم يقطع المدى
بوصل ولا هجر فبيأس طامع
أبى اللّه أن يلقي الرشاد متيم
ألا كل شيء حمّ لا شك واقع
هما برحابي معولين كلاهما
فؤاد وعين ماقها الدهر دامع
إذا نحن أفنينا البكاء عشية
فموعدنا قرن من الشمس طالع
وروى أن قيساً انتقى ناقة من إبله وقصد المدينة ليبيعها فاشتراها زوج لبنى وهو لا يعرفه، ثم قال له ائتني غداً في دار كثير بن الصلت أقبضك الثمن، فجاء في الموعد وطرق الباب فأدخله و كان قد صنع له طعاماً وقام لبعض حاجاته، فقالت المرأة لخادمتها سليه ما بال وجهه متغيراً شاحباً فتنفس الصعداء، ثم قال هكذا حال من فارق الأحبة. فقالت استخبريه عن قصته فاستخبرته فشرع يحكي أمره فرفعت الحجاب وقالت حسبك قد عرفنا حالك فبهت حين عرفها وبقي ساعة لاينطق ، ثم خرج لوجهه هائما فاعترضه الرجل وقال ما بالك عدلت عن قبض مالك وإن شئت زدناك، فلم يكلمه ومضى سائرا فدخل الرجل فقالت له ما هذا الذي فعلت إنه لقيس فحلف أنه لا يعرفه،
وأنشد قيس معاتباً لنفسه:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها
وكنت عليها بالملا أنت أقدر
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت
فللدهر والدنيا بطون وأظهر
كأني في أرجوحة بين أحبل
إذا فكرة منها على القلب تخطر
وقيل أنه حين جاء ليقبض ثمن الناقة رأى لبنى فعاد مبهوتاً فسأله أأنت قيس قال نعم قال ارجع لنخيرها فإن اختارتك طلقتها وظن الرجل أنها تبغض قيساً فخيرها فاختارت قيساً فطلقها لوقته.
وقيل أن سبب طلاقها أن قيساً قصد ابن أبي عتيق وكان أكثر أهل زمانه مروءة في ذلك، فجاء إلى الحسن والحسين السبطين رضي الله عنهما وأعلمهما أن له حاجة عند زوج لبنى وطلب أن ينجداه عليه فمضيا معه حتى ا جتمعوا به وكلموه
فقال سلوا ما شئتم
فقال له ابن أبي عتيق :أهلاً كان أو مالاً؟
قال نعم،
فقال أريد أن تطلق لبنى ولك ما شئت عندي
فقال الرجل : أشهدكم أنها طالق ثلاثاً
فاستحيوا منه وعوضه الحسن رضي الله عنه مائة ألف درهم
وقال له لو علمت الحاجة ما جئت. وروى أن لبنى عاتبت قيساً على زواجه من الفزارية فحلف لها أن عينيه لم تكتحل برؤيتها ولم يكلمها لفظة واحدة وأنه لو رآها لم يعرفها وأخبرته لبنى أنها كارهة لزوجها وأعلمته أنها لم تتزوجه رغبة فيه بل شفقة على قيس حين أهدر دمه ليخلى عنها فطلقها حين علم ما بينهما
وأرسل أخو الفزارية إلى قيس حين أبطا عنه يسأله الرجوع فأعاد الرسول بالخيار في أمر اخته فاختار الرجل عدم الفرقة وقصد قيس معاوية فمدحه فرق له وكان ذلك قبل طلاق لبنى
فقال له إن شئت كتبت إلى زوجها بطلاقها
فقال لا ولكن ائذن لي أن أكون ببلدها ففعل
فنزل قيس حين زال هدر دمه بحبها وظافرت مدائحه فيها حتى قيل ان معبدا والغريض واضرابهما قد تغتنوا بهما فرق الناس له ولما طلقت ونقلت إلى العدة بأمر ابن أبي عتيق فمنهم من يقول أنها أكملت عدتها وتزوجها وأقاما إلى الموت بدليل مدحه لابن أبي عتيق حيث قال:
جزى الرحمن أفضل ما يجازى
على الاحسان خيراً من صديق
فقد جربت إخواني جميعاً
فما ألفيت كابن أبي عتيق
سعى في جمع شملي بعد صدع
ورأى حدت فيه عن الطريق
وأطفأ لوعة كانت بقلبي
أغصتني حرارتها بريقي
وقيل- في الاغلب - أنها ماتت في العدة وأن مدحه لابن أبي عتيق حين لم يشك في عودها إليه وقد نهاه عن مدحه والقائلون بموت لبنى في العدة أجمعوا أن قيساً خرج حين بلغه ذلك حتى وقف على قبرها وأنشد:
مات لبينى فموتها موتي
هل ينفعن حسرة على الفوت
إني سأبكي بكاء مكتئب
قضى حياة وجداً على ميت
وقال ايضا فيها :
لو أن امرأ أخفي الهوى عن
ضميره لمت ولم يعلم بذاك ضمير
ولكن سألقي اللّه والنفس لم تبح
بسرّك والمستخبرون كثير
وأخبارقيس مع لبنى كثيرة جداً ومن قصائده فيها :
عفا سرف من أهله فسراوع
فجنبا أريك فالتلاع الدوافع
لعل (لبينى) أن يحم لقاؤها
ببعض البلاد إن ما حم واقع
بجزع من الوادي خلا عن أنيسه
عفا وتخطته العيون الخوادع
ولما بدا منها الفراق كما بدا
بظهر الصفا الصلد الشقوق الشوائع
تمنيت أن تلقي( لبيناك) والمنى
تعاصيك أحيانا وحينا تطاوع
وما من حبيب وامق لحبيبه
ولا ذي هوى إلا له الدهر فاجمع
وطار غراب البين وانشقت العصا
ببين كما شق الأديم الصوانع
ألا يا غراب البين قد طرت بالذي
أحاذر من لبني فهل أنت واقع!
أتبكي على لبني وأنت تركتها
وكنت كآت غيه وهو طائع
فلا تبكين في إثر شئ ندامة
إذا نزعته من يديك النوازع
فليس لأمر حاول الله جمعه
مشت ولا ما فرق الله جامع
طمعت( بلبنى) أن تريع وإنما
تقطع أعناق الرجال المطامع
كأنك لم تقنع إذا لم تلاقها
وإن تلقها فالقلب راض وقانع
فيا قلب خبرني إذا شطت النوى
(بلبنى) وصدت عنك ما أنت صانع
أتصبر للبين المشت مع الجوى
أم أنت امرؤ ناسي الحياء فجازع
فما أنا إن بانت (لبيني) بهاجع
إذا ما استقلت بالنيام المضاجع
وكيف ينام المرء مستشعر الجوى
ضجيع الأسى فيها نكاس روادع
فلا خير في الدنيا إذا لم تواتنا
(لبيني )ولم يجمع لنا الشمل جامع
أليست لبين تحت سقف يكنها
وإياي هذا إن نأت لي نافع
ويلبسنا الليل البهيم إذا دجا
ونبصر ضوء الصبح والفجر ساطع
تطا تحت رجليها بساطا وبعضه
أطاه برجلي ليس يطويه مانع
وأفرح إن أمست بخير وإن يكن
بها الحدث العادي توعني الروائع
كأنك بدع لم تر الناس قبلها
ولم يطلعك الدهر فيمن يطالع
فقد كنت أبكي والنوى مطمئنة
بنا وبكم من علم ما البين صانع
وأهجركم هجر البغيض وحبكم
على كبدي منه كلوم صوادع
فواكبدي من شدة الشوق والأسى
وواكبدي إني إلى الله راجع
وأعجل للإشفاق حتى يشفني
مخافة وشك البين والشمل جامع
وأعمد للأرض التي من ورائكم
لترجعني يوما إليك الرواجع
فيا قلب صبرا واعترافا لما ترى
ويا حبها قع بالذي أنت واقع
لعمري لمن أمسى وأنت ضجيعة
من الناس ما اختيرت عليه المضاجع
ألا تلك( لبنى) قد تراخى مزارها
وللبين غم ما يزال ينازع
إذا لم يكن إلا الجوى فكفى به
جوى خزق قد ضمنتها الأضالع
أبائنة ( لبنى) ولم تقطع المدى
بوصل ولا صرم فييأس طامع
يظل نهار الوالهين نهاره
وتهدنه في النائمين المضاجع
سواء فليلي من نهاري وإنما
تقسم بين الهالكين المصارع
ولولا رجاء القلب أن تسعف النوى
لما حملته بينهن الأضالع
له وجبات إثر لبنى كأنها
شقائق برق في السحاب لوامع
نهاري نهار الناس حتى إذا دجا
لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني والهم بالليل جامع
لقد ثبتت في القلب منك مودة
كما تثبتت في الراحتين الأصابع
أبى الله أن يلقى الرشاد متيم
ألا كل أمر حم لابد واقع
هما برحا بي معولين كلاهما
فؤاد وعين جفنها - الدهر – دامع
إذا نحن أنفدنا البكاء عشية
فموعدنا قرن من الشمس طالع
وللحب آيات تبين بالفتى
شحوب وتعرى من يديه الأشاجع
وما كل ما منتك نفسك خاليا
تلاقي ولا كل الهوى أنت تابع
وجانب قرب الناس يخلو بهمه
وعاوده فيها هيام مراجع
أراك اجتنبت الحي من غير بغضة
ولو شئت لم تجنح إليك الأصابع
كأن بلاد الله ما لم تكن بها
وإن كان فيها الخلق قفر بلاقع
ألا إنما أبكي لما هو واقع
وهل جزع من وشك بينك نافع
أحال على الدهر من كل جانب
ودامت فلم تبرح على الفجائع
فمن كان محزونا غدا لفراقنا
فملآن فليبك لما هو واقع
وقال ايضا فيها:
أُحِبُّكِ أَصْنَافَاً مِنَ الحُبِّ لَمْ أَجِدْ
لَها مَثَلاً في سَائِرِ النَّاسِ يُوصَفُ
فَمِنْهُنَّ حُبٌّ لِلْحَبِيبِ وَرَحْمَة ٌ
بِمَعْرِفَتِي مِنْهُ بِمَا يَتَكَلَّفُ
وَمِنْهُنَّ ألاّ يَعْرِضَ الدَّهْرَ ذِكْرُهَا
على القلبِ إلاَ كادتِ النَّفسُ تَتلَفُ
وَحُبُ بَدَا بالجِسْمِ واللَّوْنِ ظاهِرٌ
وَحُبٌّ لدى نَفسي مِنَ الرُّوحِ ألطفُ
وَحُبٌّ هو الداءُ العياءُ بِعَينهِ
لَهُ ذِكَرٌ تَعدو عَليَّ فأدنّفُ
فَلاَ أَنَا مِنْهُ مُسْتَرِيحٌ فَمَيِّتٌ
وَلاَ هُوَ عَلَى مَا قَدْ حَيِيتُ مُخَفَّفُ
فَيا حُبَّها، ما زِلْتَ حَتَّى قَتَلْتَني
وَلاَ أَنْتَ، إنْ طَالَ البلاء لِيَ مُنْصِفُ
وقال ايضا فيها :
ألاَ لَيْتَ لُبْنَى في خَلاءٍ تَزُورُني
فأشكُو إليها لوعتِي ثُمَّ تَرْجعُ
صَحَا كُلُّ ذي لُبٍّ وَكُلُّ مُتَيَّمٍ
و قلبِي بِلُبْنَى ما حَيِيتُ مُرَوَّعُ
فَيَا مَنْ لِقَلْبٍ ما يُفِيقُ مِنَ الهَوَى
وَيَا مَنْ لِعَيْنٍ بِالصَّبَابة ِ تَدمعُ