اسلام سيفلايزيشن -السيد فالح آل الحجية الكيلاني
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
اسلام سيفلايزيشن -السيد فالح آل الحجية الكيلاني

الحضارة الاسلامية باشراف المهندس خالدصبحي الكيلاني والباحث جمال الدين فالح الكيلاني


أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى

الشاعر ابن حمدبس الصقلي بقلم - فالح الحجية

اذهب الى الأسفل  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

فالح الحجية

فالح الحجية
Admin





ابن حمديس الصقلّي


هو ابو محمد عبد الجبار بن أبي بكر بن محمد بن حمديس الصقلي الازدي .

ولد في مدينة (سرقوسة ) بجزيرة ( صقلية ) سنة \ 447 هجرية - 1055 ميلادية وهي أجمل مدن الساحل الشرقي لجزيرة ( صقلية) - وكانت هذه الجزيرة عربية خالصة - من اصل عربي ينتمي إلى قبيلة الأزد - لكنه لم يفتخر بهذا النسب بل افتخر بأنه من ( بني الثغر) اعتزازاً بوطنه الذي نشأ فيه ومتحيزا له أكثر من اعتزازه بالقبيلة.- أثناء حكم المسلمين لهذه الجزيرة وتعلّم فيها وشارك في بعض معارك المسلمين في إيطاليا في شبابه وبعد سقوط إمارة صقلية سنة \ 464 هـجرية – 1085 ميلادية .

نشأ من أسرة متديّنة محافظة عُرف منها جدّه وأبوه بالتقوى وشدة الايمان فتزود بثقافة تنامت وتعمَّقت وصُقلت مع الأيام فكانت في العروض والنحو واللغة والتاريخ وطبائع الحيوان و في بيئة اتصلت بالثقافة الدينية والطبية والأدبية . يقول في صباه في الغزل :

رُوَيْدَكِ يا مَعذِّبَة َ القلوبِ أما تخشين من كسب الذنوب

متى يجري طلوعك في جفوني سنا شمسٍ مواصلة ِ الغروب

وكم تبلي الكروب عليك جسمي ألا فَرَجٌ لديك من الكروب

وأنْتِ قدحتِ في أعشار قلبي بسهميكِ: المُعلّى والرّقيب

ولم أسمع بأن عيون عينٍ تُفِيضُ سهامَهُنّ على القلوب

احب ابن حمديس ( صقلية ) التي ولد ونشأ فيها وبقي قلبه معلقا بحبها وفيها يقول:

ولله أرضٌ إن عَدِمتم هواءها
فأهواؤكم في الأرض منثورةُ النظم

وعزّكم يفضي إلى الذل والنوى
من البَيْن ترمي الشمل منكم بما ترمي

فإنَّ بلاد الناس ليست بلادكم
ولا جارها والخِلْم كالجار والخِلم

كان ابن حمديس ( سرقوسي) الأصل وكان عمره سبعة عشر عاما حين سقطت مدينة ( بلرم ) احدى مدن جزيرة ( صقلية ) وفي هذه السن المبكرة ايقن ان ( صقلية ) ستضيع من أيدي المسلمين بلداً آخر.

وعاش ابن حمديس أربعة وعشرون عاماً في (صقلية ) وطنه الا إنه بقي كل حياته محبا لذلك الوطن مخلصا له - أي في ظل الأعوام التي وعي ذكرياتها وأحداثها. وقد كانت تلك السنون تمثل عصر الطفولة والصبا و الشباب، وفي ذلك العهد تكونت النواة الأولى لشاعريته فشعره في ( صقلية ) إبان الصبا هو شعر الفارس المحارب الذي يلتفت إلى آلات الحرب والسفن الحربية ويعتز بالقوة ويحب فيكون حبه عارماً وشهواته فاتكة، ويتردد بين عنف الحرب، ورقة الحب وذكريات الطفولة
والصبا فيقول :

أحن إلى أرضى التي في ترابها
مفاصلُ من أهلي بلين وأعظـمُ

كما حن في قيد الدجى بمضـلة
إلى وطن عوْدٌ من الشوق يرزمُ


لم تكن حالة العرب في ( صقلية ) تنبئ بخير في منتصف القرن الحادي عشر فقد سقطت مدن الجزيرة كلها في أيدي ( النورمان)
في عام \ 471هجرية - 1092 ميلادية ، أي بعد ولادة ابن حمديس بسبع وثلاثين سنة وشهد ما هو أبعد اثراً من ذلك في نفسه فقد حضر طرفاً من وقفة وطنه وقتاله للنورمان مع ( ابن عباد ) القائد السرقوسي واشترك معه بنفسه في الدفاع عن ذلك الوطن، فهو يحدثنا عن المعارك البحرية التي كان يخوضها أهل بلده فيقول في إغراقهم لسفن الأعداء :

صَببنا عليها ضربنا من صَوَارم
فغاضت بها من أسرها القلب أنفس

ونحن بنو الثغر الذين سيوفهمْ
ذكورٌ بأبكار المنايا تعرسُ

فمن عزمنا هنديةُ الضرب تنتضى
ومن زَندنا ناريةُ البأس تقبسُ

فكان سكان الجزيرة العرب قد انتظموا في مواقع اتخذ وها أوطانا جديدة بعد النكبة وانتزاع الجزيرة منهم . وفي قصائد ه التي كانت في عهد الرجاء نجده يفتخر بقومه (بني الثغر) الذين يغذي فطيمهم من حلب الأوداج و بقي يفخر ويثنى على شجاعتهم وحربهم مع الروم في البر والبحر فيقول :

ومتخذي قمص الحديد مـلابـسـاً
إذا نكل الأبطال في الحرب اقدموا

كأنهم خاضـوا سـرابـاً بـقـعة
ترى للدبا فيها عيونـاً عـلـيهـم

صبرنا بهم صبر الكرام ولم يسـغ
لنا الشهد غلا بعد ما ساغ علـقـم

آثر ابن حمديس الارتحال فيمم شطر الأندلس التي كانت مقسمة يحكمها ملوك دويلات الطوائف ففضل الذهاب الى ( اشبيلية ) وكان حاكمها الامير الشاعر ( المعتمد بن عباد ) وهو رجل تمثلت في شخصيته السياسة والشعر والأدب ويزدحم في قصره الشعراء والأدباء ورجال العلم والثقافة .

اتصل شاعرنا بالامير ( المعتمد بن عباد ) وكان من شعراء بلاطه المقربين اليه . وقد اكثر ابن حمديس من قصائده في المدائح في المعتمد وفي ابنه الرشيد مشيدًا بشجاعته والنصر في معركة (الزلاقة ) بقصيدة مطلعها:

حَمَيْتَ حمى الإسلام إذ ذُ دْتَ دونه
هزبراً ورشَّحت الرشيد له شبلاً

سعد ابن حمديس بالحياة في ( اشبيلية ) وتكونت له صحبة من الشعراء ممن كان يعج بهم بلاط المعتمد ، وقد وجد ابن حمديس في ذلك كله امتدادا لحياة رغيدة كان يحياها في وطنه – صقلية - بعد أن ارتضى العيش في كنف المعتمد ، فأحبه ، وامتدحه ، وعدد مآثره ، وأثنى على جهاده وشجاعته ، ووجد فيه رجل الدولة ، الذي تمنى أن يقترن به اسمه و( اشبيلية ) فلم تكن لتقل عن جمالها ، وطبيعتها الساحرة ، وحضارتها عن مدينته التي ولد فيها( سرقوسة )،

وبعد أن استولى المرابطون على ( إشبيلية ) وسقط حكم الامير المعتمد بن عباد ونفي الى المغرب حبيسا فكان يرسل شعره الى احبته في (اشبيلية ) ومنهم شاعرنا ابن حمديس ومنها هذه الابيات :

غريب باقصي المشرقين اسير
يبكي عليه منبر وسرير

اذل بني ماء السماء زمانهم
وذل بني ماء السماء كبير

فكان ابن حمديس يحييه و لم يتخل عنه كما فعل معظم الناس الذين يقتربون مع الجاه والغنى ويبتعدون عند زواله وفاءا له واكراما فقال يجيبه :

اتياس من يوم يناقض امسه
وشهب الدراري في البروج تدور

ولما رحلتم بالندي في اكفكم
وقلقل رضوي منكم وتبير

رفعت بالقيامة قد دنت
فهذي الجبال الراسيات تسير

فاضطر الشاعر ابن حمديس الى الارتحال من الاندلس فانتقل الى بلاد المغرب العربي وشمال افريقيا .

انتقل ابن حمديس الى المغرب سنة \ 484 هـجرية – 1115 ميلادية فتردد على المعتمد بن عباد في منفاه او محبسه في ( أغمات) وفاءًا له لاكرامه وانعامه عليه عندما كان اميرا في الاندلس ومدح في المغرب و بمدينة (سلا ) على ساحل البحر المحيط القاضي عبد الرحمن بن القاسم الشعبي، فيقول :

لكل محب نظرة تبعث الهوى
ولي نظرة نحو القتول هي القتل

ترد د بالتكريه رسل نواظري
ومن شيم الانصاف ان تكرم الرسل

ركبت نوى جوابة الارض لم يعش
لراكبها عيس نخب ولا رجل

اسائل عن دور السماح واهله
ولا دار فيها للسماح ولا اهل

لولا ذرى ابن القاسم الواهب الغني
لما حط منها عند ذي كرم رحل

تخفض اقدار اللئام بلئمهم
وقدر على من مكارمه يعلو

فتى لم يفارق كفه عقد منة
ولا عرضة صون ولا ماله بذل

له نعم تخضر منها مواقع
ولاسيما ان غير الافق المحل

ورحب جنان ينزل للقرى
وفصل خطاب حين يجتمع الحفل

ووجه جميل الوجه تحسب حره
حساما له من لحظ سائله صقل

مروعة امواله بعطائه
كان جنونا مسها منه – او خبل

واي امان او قرار لخالف
على راس من كف قاتله نصل


وفي (اغمات) في المغرب وهي المدينة التي سكنها المعتمد بن عباد منفيا كان كان ابن حمديس يخاطب المعتمد بها ويطارحه الشعر فيها اقتطف هذه الابيات :

اباد حياتي الموت ان كنت ساليا
وانت مقيم في قيودك عانيا

وان لم ابار المزن قطرا بادمعي
عليك فلا سقيت منها الغواديا

تعربت من قلبي الذي كان ضاحكا فما البس الاجفان الا بواكيا

وما فرحي يوم المسرة طائعا
ولا حزني يوم المساءة عاصيا

وهل انا ال ا سائل سامع
احاديث تبكي بالنجيع المعاليا

قيودك صيغت من جديد ولم تكن
لاهل الخطايا منك الا اياديا

تعينك من غير اقتراحك نعمة
فتقطع بالابراق فينا اللياليا

كشفت لها ساقا وكنت لكشفها
تحز الهوادي او تحز النواصيا

وجاء شاعرنا لزيارة المعتمد ب ( اغمات) صرفه بعض خدمه، فرجع الى منزله، فلما علم بذلك المعتمد تأ سف وكتب اليه :

حجبت فلا والله ما ذاك عن امري
فاصغ فدتك النفس سمعا الى عذري

فما صار اخلال المكارم لي هوى
ولا دار اخجال لمثلك في صدري

ولكنه لما احالت محاسني
يد الدهر شلت عنك دابا يد الدهر

عدمت من الخدام كل مهذب
اشير اليه بالخفي من الامر

ولم يبق الا كل ادكن الكن
فلا آذن في الاذن يبرا من عسر

حمار اذا يمشي ونسر محلق
اذا طار بعد ا للحمار وللنسر

وليس بمحتاج اتانا حمارهم
ولا نسرهم مما يحن الى وكر

وهل كنت الا البارد العذب انما
به يشتفي الظمآن من علة الصدر

وانت ابن حمديس الذي كنت مهدبا
لنا السحر اذ لم يات في زمن السحر

فاجابه ابن حمديس بقوله :

امثلك مولى يبسط العبد بالعذر
بغير انقباض منك يجري الى ذكر

لهد قريض الفضل ما هد من قوى
وحل به ما حل من عقدة الصبر

واني امرؤ في خجلة مستمرة
يذوب لها في الماء جامدة الصخر

اتتني قوافيك التي جل قدرها
بما نقطة منهن مغرقة بحري

لعلك اذ اغنيتني منك بالندى
اردت الغنى لي من مديحك بالفخر

لعمري اني ما توهمت ريبة
فتدفع وجه العرف عندك بالنكر

وطبعك تبر سحر الفضل محضه
وحاشا له ان يستحيل مع الدهر

وكنت امل الجود منك وانت لا
تمل عطاء منه ياتي على الوفر

فكيف اظن الظن غير مبرا
تواضع تيها كوكب الجو عن قدر

يخف علي خدام ملكك جانبي
كما خف هدب العيون على شفر

اذا طار منهم بالوصية شوذق
فذلك في افصاح منطقة القمري

تحدث عيني عينه بالذي يرى
بوجهك لي من حسن مائية البشر


ولما سأم الاقامة بالمغرب وقبل ان يهجرها الى تونس ليتصل بأبي طاهر بن تميم بن المعز الصنهاجي انشد با ئيته نقتطف منها هذه الابيات :

امطتك همتك العزيمة فاركب
لا تامين عصاك دون المطلب

ما بال ذي النظر الصحيح تقبلت
في عينه الدنيا ولم يتقلب

فاطو العجاج بكل يعمله لها
عم السفينة في سراب السبب

شرق لتجلو من ضيائك ظلمة
فالشمس يمرض نورها بالمغرب

والماء ياجن في القرارة راكدا
فاذا علتك قداته فتسرب

طال التغرب في بلاد خصصت
بوخامة المرعى وطرق المشرب

ثم غادر المغرب الى بلاط بني زيري في ( القيروان ) أي في تونس الحالية في شمال إفريقية يمتدحهم ليتكسّب بشعره - بعد ان فقد ثروته في سفره من الاندلس الى المغرب - فمدح أبا طاهر يحيى بن تميم الصنهاجي ثم مدح ابنه عليًّا ، ثم ابنه الحسن وكان سفره في سنة \ 516 هـجرية – 1122ميلادية :

ولما اضطربت أحوال ( بني زيري ) انتقل إلى ( بني حماد ) في ( بجاية ) احدى المدن الجزائر الحالية وكان قد ا نشأ المنصور أمير ( بجاية ) بركة جميلة قصره زينت حافاتها بأشجار عليها طيور مصنوعة وعلقت على أغصانها قناديل ذهبية وفضية وأقيمت حولها تماثيل على هيئة أسود نخرج من أفواهها المياه وقد وفد الشاعر ابن حمديس على المنصور فتأثر بهذا المنظر الرائع وانشد قصيدة رائية في صفتها اذكر منها هذه الابيات :

وضراغم سكنت عرين رياسة
تركت خرير الماء فيه زئيرا

فكأنما غشى النضار جسومها
وأذاب في أفواهها البلورا

أسد كأن سكونها متحرك
في النفس لو وجدت هناك مثيرا

وتذكرت فتكاتها فكأنما
أقعت على أدبارها لتثورا

وتخالها والشمس تجلو لونها
نارا وألسنها اللواحس نورا

فكأنما سلت سيوف جداول
ذابت بلا نار فعدن غديرا

وكأنما نسج النسيم لمائه
درعا فقدر سردها تقديرا

توفي ابن حمديس في رمضان سنة \ 527 هـجرية – 1133 ميلادية في جزيرة (ميورقة ) وكان قد بلغ من العمر ثمانين عاما وقد كُفّ بصره . ودُفن إلى جوار قبر الشاعر (ابن اللبانة) .
وفي رواية اخرى مات بمدينة (بجاية ) .

قال ابن بسام عنه في كتابه الذخيرة:

( شاعر ماهر يقرطس أغراض المعاني البديعة ويعبر عنها بالألفاظ النفيسة الرقيقة ويتصرف في التشبيه ويغوص في بحر الكلم على درّ المعنى الغريب )

ومما ا ؤشره هنا ما وما اشعر به هو ذلك الارتبا ط و الحنين فاراه وثيقا بالغربة في الشعر العربي فعندما يبتعد الإنسان عن مكان ما – وخاصة وطنه - يشعر بحنين إليه، ويشتاق لكل ما فيه من ذكريات واحداث تشده اليه شدا وثيقا وهذا ما حصل لشاعرنا ابن حمديس الذي اشرق فجر سنين غربته بأشعار ينضح فيها الحب والحنين. فالشاعر ظل مغتربا طوال حياته لم يتخذ لنفسه وطنا غير جزيرة ( صقلية ) على الرغم من طول بعده عنها فهو شاعر الاغتراب والحنين الدائم فشعر باحساس جليل في قرارة نفسه بضياع الوطن وقد اجتمعت عوامل كثيرة حرمت ابن حمديس كل عزاء بعد ان غلبه اليأس والحرمان من العودة إلى وطنه الأول .فيبكي ما أصاب شعبه وبلاده بعد اغتصاب أرضه و بلاده من قبل ( النورمانديين ) واحتلالها بين عشية وضحاها، وتفرق الشعب الصقلي كل في مكان، وأصبح مأواهم العراء والخيام البالية، ومرت السنون و الأعوام وهم متشردون في الغربة حتى أصبحوا ذكريات يجترها خاطر ه فتذرف عيونه مدامعها عليهم وقد اشر ذلك في شعره وقصائده فكانت تتوهج الما وا ساّ وحسرات عليهم فيقول:

ليَ قلب من جامد الصخر أقسى
وهو من رقة الـنـسـيم أرق

كهصورٍ في كفّه الظُّفْرُ عَضْبٌ
وغريرٍ في صدره النهدُ حُقّ

عزمتي كوكبٌ وطرفي ريحٌ
وأضاتي غيمٌ، وسيفيَ برْق

ضربتي في مفارقِ الذِّمرِ جيبٌ
بين كفيّ عند غيطٍ يُشقّ

حشُوها من فُلولِ عَضْبِي شَظَايا
كنيوبٍ عَنْهُنَّ قَلّصَ شِدْقُ

سعد ابن حمديس بالحياة في ( اشبيلية ) ، وتكونت له صحبة من الشعراء ممن كان يعج بهم بلاط المعتمد ، وقد وجد ابن حمديس في ذلك كله امتدادا لحياة رغيدة كان يحياها في وطنه – صقلية- بعد أن ارتضى العيش في كنف المعتمد ، فأحبه ، وامتدحه ، وعدد مآثره ، وأثنى على جهاده وشجاعته ، ووجد فيه رجل الدولة ، الذي تمنى أن يقترن به اسمه ،و( اشبيلية ) فلم تكن لتقل عن جمالها ، وطبيعتها الساحرة ، وحضارتها عن مدينته التي ولد فيها( سرقوسة )، فلئن توافرت له مثل هذه الظروف ، فقد أوشك أن يطمئن إلى وطن بديل ،و لم يكن من شأن الأيام الجميلة أن تدوم ، فلقد فاجأت الشاعر أحداث جسام تغير معها وجه الدنيا ، وتغيرت معها أيضاً نظرته إلى الحياة والناس ، فالأخبار الواردة من صقلية تنبئ بأن المقاومة قد بدأت تضعف على الرغم من البسالة التي أبداها المدافعون عن الجزيرة بقيادة (ابن عباد الصقلي) ، وأن احتمال استيلاء النورمان على بلاده بات مرجحا ، ولكن القائد ابن عباد غرق في إحدى المعارك البحرية ،وسقطت جزيرة ( صقلية ) فتجرع ابن حمديس بسقوطها كأسا ظل يستشعر مرارتها على مر الأيام .وإن سقوط صقلية بعد إخفاق الأمير ابن عباد في (سرقوسة )و(نوطس) ووقوع الجزيرة في يد النورمان خلق ابن حمديس خلقاً جديداً، ولم تستطع تلك الهجرة أن تنسيه (صقلية ) ، فظل طوال حياته يحن اليها .

لذا نجد في شعره وضوحاً بيناً لوطنيته وحبه لوطنه فهو لا يكف عن ذكره مهما كانت المناسبة التي يتحدث فيها و من قصيدة نظمها وهو في الستين من عمره- اقتطف هذه الابيات :

قضت في الصبا النفس أوطارها
وأبلغها الشيب أنــــــذارها

نعم وأجيلت قـــــــداح الهــــوى
عليها فقسّمن أعـــــشارها

وما غرس الدهـــــــــر في تربة
غراسا ولم يجــــن أثمارها

ذكرت صقــــــــلية والأســـــــى
يهيج للنفــــس تــــذكارها

ومنزلة للتصابــــــي خلـــــــــت
وكان بنو الظرف عمارها

ولولا ملوحــــة مــــــاء البكـــا
حسبت دموعي أنهارهـــا

فلا تعظمــــــن لديـــــك الذنوب
فما زال ربك غـفـــــارها

وفي قصيدة اخرى يرسم الشاعر ما عنده من صور موحية نابضة عن وطنه الذي غابت عن ناظره محاسنه ولم يعد يأمل ان ترى ناظرية ربوعه فيقول :

فرغت من الشباب فلست أرنو
إلى لهو فيشغلني الرحيـــق

ولا أنا في صقليـــــة غلامــــا
فتلزمني لكل هوى حقـــوق

ليالي تعمل الأفـــراح كأســــي
فمالي غير ريق الكأس ريق

تجنبت الغــــواية عن رشــــاد
كما يتجنب الكذب الصــدوق

وإن كانت صبابات التصابـــي
يلوح لها على كلمي بـروق

وبعد ان كان يتطلع في حسرة إلى المعاهد والديار تحدته
شعلة الحنين في صدره فإذا به يبكي بكاءا مرا فيقول :

ألا في ضمان الله دارٌ بنـوطـس
ودرت عليها معصرات الهواضب

أمثلها في خاطري كـل سـاعة
وأمري لها قطر الدموع السواكب

أحن حنين النيب للموطن الـذي
مغاني غوانـيه إلـيه جـواذبـي

ومن سار عن أرض ثوى قلبهُ بها
تمنى له بـالـجـسـم أوبة آيب

ابن حمديس شاعر فحل من خيرة الشعراء العرب جمع بين الشعر والعاطفة والحكمـــة والخيال والعلم واللغة والبلاغة وروحه الشعرية شذية فواحة غلابة وكانـــــــت عواطفه واحاسيسه هي الدم في جسد قصائده فكسبتها الحياة والروعة والجمال فهو ذو شاعرية فريده وهو شاعر غزير الشعر يتميز شعره بسعة المعاني ونصاعة الاسلوب الشعري والبلاغة والخيال الواسع فقد خاض كل فنون الشعر وابدع فيها كما مر اعلاه وما سياتي وغلب على شعره احساسه الوطني وحبه لوطنه فكان شعــــــره تصويرا لحياة عصره وما فيه من احداث . ومن اهم الاغراض التي قال فيها المديح والفخر ووصف الطبيعة والخمرة والغزل والحكمة والرثاء الا الهجاء فلم يقل فيه شيئا وقال في ذلك:
ولَرُبَّ محتقَرٍ تركت جوابه
والليث يأنف عن جواب الثعلبِ
إني لأغمد من لساني مُنْصلاً
لو شئت صمّم وهو دامي المضربِ
اما في الحكمة فيقول :
أمْطَتْكَ همّتُك العزيمة فاركب
لا تلقينّ عصاك دون المطلب
مَنْ سالَم الضعفاء راموا حربه
فالبس لكل الناس شكةَ َمحرَبِ
لا يكذب الإنسان رائدُ عقله
فامرر تُمجَّ وكن عذوباً تُشرَب

ويقول في الخمرة :

كأسِ نشوانَ فيها الشمسُ بازغةٌ
باتت تديمُ إلى الإصباحِ لثَمَ فَمِه

تخفّ مَلأى وتعطي الثقلَ فارغةً
كالجسم عند وجود الروح أو عدَمِه

وقد غلب الحزن والاسى على قصائده الوطنية فهو يعاني الشوق ويكابده، و يشعر الحنين و يعايشه و يحس بالألم و يتذوق مرّ ضرباته وطعناته وغربته عن أهله ووطنه المغتصب الجريح ، لذا اختم بحثي عن هذا الشاعر الوطني الاصيل بهذه القصيدة الرائعة التي تتفجر اسى ولوعة وهو يذكر بلده الذي افتقده :

لم نؤت ليلتنا الغرّاء من قِصَرِ
لولا وصالُ ذوات الدلّ والخفر

السافراتُ شموساً كلما انتقبتْ
تبرّجتْ مشبهاتُ الأنجم الزُّهرِ

من كل حوراء لم تُخذلْ لواحظها
في الفتك مذ نصرتها فتكة النظر

أوْ كلّ لمياءَ لو جادتْ بريقِ فمٍ
نَقَعَتْ حَرّ غليلي منه في الخَصَر

محسودة ُ الحسن لا تنفكّ في شَغَفٍ
منها بصبحٍ صقيل الليل في الشعر

لا تأمننّ الردى من سيف مقلتها
فإنَّه عرضٌ في جوهر الحَوَرِ

إني امرؤ لا أرى خلعَ العذار على
من لا يقومُ عليه في الهوى عُذري

فما فُتنتُ بردفٍ غيرِ مُرْتَدَفٍ
ولا جننتُ بخصرٍ غير مختصرِ

وشربة ٍ من دم العنقود لو عُدمتْ
لم تُلْفِ عيشاً له صفوٌ بلا كدَر

إذا أدير سناها في الدجى غمستْ
دُهْمَ الحنادس في التحجيل والغررِ

تزداد ضِعْفاً قواها بَلَغَتْ
بها الليالي حدودَ الضَّعف والكبر

لا يسمعُ الأنفُ من نجْوَى تأرّجها
إلاَّ دعاويَ بين الطيب والزهر

إذا النديمُ حَساها خلَت جريتها
نجماً تصوّبَ حتى غار في قمرِ

تصافح الراحَ من كاساتها شُعَلٌ
ترمي مخافة لمسِ الماء بالشررِ

تعلو كراسيَّ أيدينا عرائسها
تُجْلَى عليهنّ بين الناي والوتر

حتى تَمَزَّقَ سترُ الليلِ عن فَلَقٍ
تقلَّص العرمضِ الطامي على النهر

والصبحُ يرفعُ كفاً من لاقطة
ً ما للدراري على الآفاق من دُرَرِ

عيشٌ خلعتُ على عمري تنعّمه
ليتَ الليالي لم تخلعه عن عمري

وَلّى وما كنتُ أدري ما حقيقتُه
كأنَّما كان ظلَّ طائر الحَذِر

بالله يا سَمُراتِ الحيِّ هل هَجَعَتْ
في ظلِّ أغصانك الغزْلانُ عن سهري

وهل يراجع وكراً فيك مغتربٌ
عزّتْ جناحيه أشراكٌ من القدر

ففيك قلبي ولو أسطيع من ولَهٍ
طارتْ إليكَ بجسمي لمحة ُ البصر

قولي لمنزلة ِ الشوق التي نقلتْ
عنها الليالي إلى دار النوى أثري

نِلْتُ المُنَى بابنِ عبادٍ فَقَيّدَنِي
عن البدورِ التي لي فيك بالبدر

حَطّتْ إليه حُداة ُ العيسِ أرْحُلنَا
فالعزم صِفْرٌ بمثواه من السفر

كان ابتدائي إليه عاطلاً فغدا
منه بحليِ الأماني حالي الخبرِ

ممَلَّكٌ قصرُ أعمارِ العُداة به
وقعُ السيوف على الهامات والقصر

عدلُ السياسة لا يرضى له سيراً
إلا بما أنزل الرحمن في السور

يُسْدِي بِيُمْناهُ من معروفه مِنناً
تكسو الصنائع صنعانية الحبرِ

لو أضحت الأرضُ يوماً كفَّ سائلهُ
لم تفتقرْ بعد جواه إلى مطر

يأوي إلى عزة ٍ قعساءَ مُرغِمة
ٍ أنْفَ الزمانِ على ما فيه من أشَر

لا يُفْلتُ الجريُ من أيدي عزائمه
أو يجعل الهامَ أجفان الظبا البُتُر

جارٍ له شأوُ آباءٍ غطارفة
ٍ أسْدٍ على الخيل أقمار على السُّرر

لا تَسْتَلِينُ المنايَا عَجْمَ عودِهِمُ
والنبعُ ليس بمنسوبٍ إلى الخور

يقطّبُ الموتُ خوفاً من لقائهم
ويضحكُ الثغرُ منهم عن سنا ثُغَر

يا مرويَ الرمح والأرماح ظامئة
ٌ من الأسود الضواري بالدم الهدر

لولا تعشّقكَ الهيجاء ما ركبتْ
بك العزيمة ُ فيها صهوة الخطر

إذا التظتْ شعل الأرماح وانغمست
من الدروع على الأرواح في غدرِ

وفي اصطبارك فيها والردى جزع
ما دلّ أنَّك عنها غيرُ مُصْطَبر

ومأزقٍ مَزَّقَتْ بيضُ السيوفِ به
ما لا يُرقّعهُ الآسون بالإبر

من جَحْفَلٍ ضَمِنَ الفتحُ المبينُ له
ذُلَّ الأعادي بعزِّ النصر والظفر

تحدو عَذَابَك فيه للوغَى عَذَبٌ
تهفو كأيدي الثكالى طشنَ من حرر

جاءت صُدور العوالي فيه حاقدة
ً يفتر منها دخان النقع عن شرر

فكمْ قلوبٍ لها جاشَتْ مراجِلُها
لمّا تساقط جمرُ الطعنِ في النُّقر

كأنَّما كلّ أرضٍ من نجيعهمُ
رخو الأسنَّة منها ميِّت الشعر

وخائضٍ في عُبابِ الموتِ منصلتٍ
مقارعِ الأسد بين البيضِ والسمرِ

خَلَقْتَ بالضربِ منه في القذالِ فما
أنْطَقْتَ فيه لسان الصارم الذكر

يا معلياً بعلاهُ كل منْخَفِضٍ
ومغنياً بنداه كلّ مفتقر

هل كان جودكَ في الأموال مقتفياً
آثار بأسكَ في أسد الوغى الهُصُر

نادى نداكَ بني الآمالِ فازدحموا
بالواخداتِ على الرّوْحاتِ والبُكَر

كما دعا الروضُ إذ فاحتْ نواسمهُ
روّادَهُ بنسيم النور في السحر

يهدي لك البحرُ مما فيه مُعْظَمَهُ
والبحرُ لا شك فيه معدن الدّرر

إنَّا لنخجل في الانشاد بين يدي
ربِّ القوافي التي حُلّينَ بالفقر

مَنْ ملّك اللهُ حُسنَ القول مقولهُ
فلو رآه ابنُ حُجْرٍ عادَ كالحجر




****************************

https://falih.ahlamontada.net

الرجوع الى أعلى الصفحة  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى